"سينما سرايا".. مصير يشبه أحلامنا

03 يوليو 2015
(سينما سرايا في السويداء)
+ الخط -

قُتل، الشهر الماضي، الرجل الذي منح كنيته لهذه السينما، "أسعد سرايا". وقد بناها في السويداء في منتصف الستينيات من القرن العشرين، بعد عودته من المهجر في إحدى دول أميركا اللاتينية.

أصابه صاروخ "عشوائي" أطلق من مكان ما على المدينة، وسقط في فناء بيته حين كان جالساً يحتسي فنجان قهوته. لكن السينما، "سينما سرايا،" كانت قد ماتت منذ أكثر من عشرين عاماً أيضاً، أو دفنت حيّةً.

هذا القول أكثر دلالةً على حالتها اليوم. فما يزال البناء قائماً وسط المدينة، وما يزال الطلاء البني أو القرميدي المحزز بخطوط شاقولية بيضاء على حاله، في الواجهتين الشرقية والشمالية. كما أن اسم الدار المكتوب باللغتين العربية والإنجليزية ظل صامداً في وجه الزمن والطبيعة، على الرغم من أن أحداً لم يمس تلك الإضافات الجمالية بأي تحسين أو عناية منذ سنوات طويلة.

يشكّل الأخضر في الكتابة تناغماً هادئاً مع ألوان الجدران المجاورة. وبينما يشغل البهو الأرضي اليوم بائع زهور، فإننا لا نعرف ما الذي حدث في الداخل، وما الذي تهرّأ وأبيد، أو ما الذي بقي وظل على حاله، أسوة بالجدران الخارجية الصامدة.

أذكر أنهم كانوا في الستينيات يقدمون فيلماً كل يوم أو يومين، وأن العرض في اليوم الأول كان يشهد حشداً من المتفرجين الذين يقودهم فضول رؤية الفيلم الجديد، الذي كان أسعد سرايا يتقن فن الإعلان له، والدعاية من أجل حضوره. كان الرجل كريماً في توزيع الأفيشات المرافقة لأي فيلم. يضعها في أمكنة مغرية، تثير فضولنا جميعاً، وتحضّنا على الحضور، حتى أكاد أظن اليوم أن كل فيلم من مئات الأفلام التي عرضتها سينماه طوال تلك الفترة كان يقدّم على أنه درّة السينما في كل العصور، يتساوى في ذلك "من أجل دولار واحد" مع "الملك لير" مع "إسماعيل ياسين في الجيش".

في تلك السنوات، كانت المدينة تخلو من أية تسلية أو أنشطة ثقافية، فالكتّاب في العاصمة تمترسوا هناك، ولم تكن لديهم أية رغبة في التواصل مع المدن الصغيرة، ولم يكن في البلد كلها سوى مجلة ثقافية شهرية واحدة هي "المعرفة" التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة، فيما كانت صحافة مصر تسيطر على اليومي والأسبوعي والشهري.

وليس في المدينة كلها مقهى، ولا تملك سوى بضعة أجهزة تلفزيونية. ولهذا فقد بدت السينما بوابتنا الوحيدة إلى الفن والثقافة والتسلية أيضاً. ولأن أسعد سرايا كان يبدل الأفلام كل يومين، فقد أتاح لنا تواصلاً دائماً مع المئات من أفلام السينما المصرية والعالمية. وعرَّفنا بتشكيلة التمثيل والإخراج من دون أي تمييز أيديولوجي أو سياسي أو فني.

وفي فترة ما من بداية الثمانينيات، قرّر أسعد إيقاف الدار عن العمل، لم تعد تقدّم له علامات في سلالم الجدوى.

ما لم يقله هو أن إجراءات السلطة كانت تنحو، يوماً بعد يوم، إلى التشدّد والمراقبة الصّارمة لجميع الأنشطة الاجتماعية التي تتّسم بالحضور الجماهيري والحشود الكثيفة. وفي حين كانت السينما تدار في الداخل من قبل عامل أو اثنين، يبديان لطفاً دبلوماسياً في تقديم الخدمات لمرتادي الدار، في أثناء الدخول واختيار المقاعد، أو في أثناء الخروج والتقدم نحو المخارج السهلة، وهما يحملان مصابيح صغيرة. حلّ رجال مخابرات يفتقرون إلى التهذيب، أو موظفون مرتبطون بالجهاز الأمني المكلّف بمراقبة أنشطة السينما من الداخل.

الأدهى أن أجهزة الأمن الأخرى كانت لا تكف يدها عن التدخل أو المراقبة أيضاً، لتجتمع في المكان قوة السلطة القمعية المراقبة كلها، كأن السينما كانت رحماً سرّيّةً يمكن أن تخفي في داخلها احتمالات الاحتجاج والمعارضة. وهو ما بدأ يبعد الرواد عن الدار. فبدلاً من تلك الطقوس الناعمة التي التزم بها روّاد السينما، مثل العناية بالهندام، واصطحاب العائلة للسهرة، وتناول الشاي أو القهوة أو الكاكاو، أو المثلجات في الكافتيريا، حلّ حذر مشوب بالخوف من العسكري الذي بدأ يشاغب في الداخل بالصفير أو الخبط بالبساطير على أرضية السينما، أو خيّم مناخ الشكوك التي بدأت تتفاقم في هوية الرواد.

وهكذا أُغلقت الدار، غير أن أسعد كان قد "تأخر" بضع سنوات قبل أن يتخّذ قراره. فصاحب السينما القديمة السابقة على سينماه، هدم الدار من دون أن يعترض أحد على إجرائه، وبنى في المكان مجمعاً تجارياً، أما أسعد فقد مُنع من ذلك.

والمعروف أن قانوناً صدر بمنع هدم دور السينما، وهي بهذا تشبهنا جميعاً: ففي حين تتصدّى القوانين لحماية الحياة، وهو هنا يحمي معلماً ثقافياً، فإن الممارسة تطحنها. وهكذا فيما كانت أسعار العقارات ترتفع في الوسط التجاري للمدينة، أجبر أسعد على البقاء في العراء، بينما راح جيرانه يهدمون أبنيتهم القديمة ليبنوا مكانها أسواقاً ومولات ومجمعات تجارية.

يخيل لي أحياناً أن "سينما سرايا" تشبه أحلامنا أيضاً، فقد شيدت من أفضل المواد، وتطلعت إلى أجمل الآمال، ثم تركت للخواء.

مات أسعد سرايا مصاباً بشظية من صاروخ عشوائي سقط على بيته قبل أيام، فيما ظلت "سينما سرايا" وحيدة تشكو الغبار، وتقف شاهدة على أحلام ضائعة.

المساهمون