استمع إلى الملخص
- **مواقف الفنانين الآخرين**: انضم إلى والش ثلاثة فنانين آخرين، منهم يوناس ستال، تشاينا ميفيل، وإيفا جاناكوبولو، الذين رفضوا منحاً من الهيئة احتجاجاً على سياساتها القمعية ضد المتضامنين مع الفلسطينيين.
- **تأثير المواقف**: أثارت مواقف هؤلاء الفنانين جدلاً واسعاً وأدت إلى إعادة النظر في البرامج الثقافية والأدبية المدعومة من الحكومة الألمانية، مما دفع بالمؤسسات الألمانية إلى اتخاذ خطوات إقصائية تعسفية.
بإعلانها، قبل أيام، رفضها منحةً لإقامة فنّية في العاصمة الألمانية، مقدَّمة من برنامج "فنانون في برلين"، أصبحَت الكاتبةُ الأيرلندية جوانا والش رابع شخصٍ يرفض، منذ بدء العدوان على غزّة، منحةً أو الترشّح لمنحة، مِن "الهيئة الألمانية للتبادل الثقافي" (DAAD) التي تصف نفسها بأنّها صاحبة أضخم برنامج دعم ثقافي وأكاديمي في العالم؛ حيث تتوزّع مصادر تمويلها بين أربع جهات رئيسية هي: وزارة الخارجية الألمانية، ووزارة التعليم والبحث العلمي، وزارة التطوير والتعاون الاقتصادي، والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تبرُّعات من جهات خاصّة.
وتُعرف الهيئة عالمياً من خلال المنح السخيّة التي تُقدّمها للطلّاب الراغبين في الدارسة في ألمانيا بشكل كامل، أو الالتحاق ببرامج التبادل الطلابي، فضلاً عن دعم برامج الدكتوراه، أو الإقامات الفنّية التي يتخصّص بها برنامج "فنّانون في برلين".
إلى جانب ذلك، تلعب المؤسَّسة دوراً في دعم تدويل الجامعات الألمانية ودعم برامج تعليم اللغة الألمانية، خصوصاً في ما يُسمّى البلدان النامية، فضلاً عن تقديم الاستشارات لصنّاع القرار في السياسية الثقافية والتعليمية، كما تنشط في إعداد حملات دعائية لـ الجامعات الألمانية، وتوفير الدعم المادّي لإصدار منشورات ثقافية وعقد مؤتمرات لها في دول مختلفة، فضلاً عن كونها صاحبة التوكيل المحلّي لمشروع تبادُل الطلّاب الأوروبي "إيراسموس".
أمّا برنامج "فنانون في برلين"، والذي أعلنت جوانا والش ردّها منحةً مقدَّمة منه، فيتخصّص في تقديم الإقامات الفنّية في برلين، ويحصل، إلى جانب موازنته من وزارة الخارجية، على موازنة من مجلس شيوخ ولاية برلين، حيث يُقدّم كلَّ عام عشرين منحةً لفنّانين أجانب للإقامة سنةً كاملةً في العاصمة الألمانية، بهدف التفرّغ للإنتاج في حقول الفنون البصرية والأدب والموسيقى.
جوانا والش: لا مساوَمة على إدانة الإبادة
في رسالتها إلى رئاسة الهيئة الألمانية للتبادل الثقافي، متمثّلةً برئيسها البروفيسور جويبراتو موخرجي، أكَّدت والش أنّ السبب الرئيسي الذي دفعها لرفض المنحة، هو قرار اتّخذه مجلس إدارة "جامعة كولونيا"، التي يرأسها موخرجي نفسُه، بإلغاء دعوة كانت موجَّهة لأستاذة الفلسفة، الأميركية يهودية الديانة نانسي فريزر، لإلقاء محاضرة ضمن أحد البرامج البحثية، وذلك على خلفية توقيعها رسالةً مفتوحة تدعو إلى مقاطعة أكاديمية عالمية لـ"إسرائيل" بسبب عدوانها على قطاع غزّة.
وترى والش أنّ إلغاء دعوة فريزر على خلفية آرائها السياسية يُهدّد بشكل رئيسي، حرّية التعبير في ألمانيا وعموم أوروبا، مؤكّدةً، في رسالتها، تأييدها هي أيضاً الدعوة إلى المقاطعة الأكاديمية لـ "إسرائيل"، حيث أنّ "المقاطَعة الأكاديمية عُرفت تاريخياً كوسيلة سلمية للاعتراض على سياسات الدولة الممارِسة للإرهاب، كما حصل مع جنوب أفريقيا في الثمانينيات". وتُقارِن والش بين هذه الدعوات السلمية وما قامت به "جامعة كولونيا" من منع للأكاديمية الأميركية من التحدّث إلى الطلاب، مشيرةً إلى أنّ دعوات المقاطعة تستهدف مؤسّسات دولة، على عكس ما فعلته الجامعة من استهداف شخصي.
وتشير والش، في رسالتها، إلى أنّها اتّخذت بدورها خطوات كثيرة في الفترة الأخيرة للاعتراض على الأعمال الإبادية في فلسطين، وهو الأمر الذي قالت إنّه يدفعها للتضامن مع الأكاديمية الأمريكية والاعتراض على منع كلمتها، وأنّها بذلك تنضمّ إلى ثلاثة فنّانين آخرين رفضوا في الأشهر الأخيرة منحاً مقدّمةً من "الهيئة الألمانية للتبادل الثقافي" بسبب سياساتها الإقصائية ومحاولة فرض أجنداتها على المشاركين في برامجها العالمية، وبهذا تقطع والش الطريق أمام الهيئة لاستخدام هذه المنحة لابتزازها فكرياً أو الدفع بها للتماهي مع السياسات الخارجية لألمانيا.
وفي ختام رسالتها، جدّدت والش تأسّفها للتنازل عن المنحة، قائلةً إنّها، رغم كلّ شيء، تُثمّن ما كان رئيس الهيئة جويبراتو موخرجي يصفه بالالتزام الشخصي بـ"دعم شخصيات تعمل على إثارة النقاش العام داخل ألمانيا"، لكن هذا يتعارض - بحسب والش - مع السياسات التي تمارسها هيئات ومؤسّسات ألمانية عديدة، بما فيها الجامعة التي يرأسها، ما يُحتّم مقاطعة هذه المؤسّسات ومواجهتها، فهي، رغم تقديرها للدعوة التي وُجّهت إليها، تُؤكّد على أنّه لا يوجد تكريم أو مكانة يمكن أن يجعلها تُساوِم في الاعتراض على أيّ جُرم يتعرّض إليه الضحايا في هذا الصراع، أو تهديد حرّية الفنّانين والأكاديميّين لمناقشته داخل أوروبا، متمنّيةً أن تُعيد الهيئة الألمانية النظر في سياساتها، بحيث يُصبح ممكناً لها مستقبلاً أن تقبل دعوتهم والمنح التي يقدّمونها.
والفنّانون الثلاثة الذين تُشير إليهم والش، فهُم يوناس ستال؛ وهو فنّان تشكيلي هولندي، وإيفا جاناكوبولو وهي فنّانة يونانية، حيث رفضا في نيسان/ إبريل الماضي ترشيحاً لإقامات فنّية في برلين، فضلاً عن الكاتب البريطاني البارز تشاينا ميفيل الذي تخلَّى عن منحة جارية منذ مطلع العام.
يوناس ستال: مناخٌ يُذكّر بفترة صعود النازية
أمّا يوناس ستال، وهو أوّل الفنّانين الأربعة الذي تخلَّوا عن ترشيحهم للمنحة، فقد ذكر إقصاء الأكاديمية نانسي فريزر سبباً أوّل لرفضه المنحة، وقد جاء في رسالته الموجَّهة إلى جويبراتو موخرجي: "لا يمكنني أن أتخيّل كيف تشعر كممثّل لمؤسّسة حكومية ألمانية أنّ من حقّك أن تُملي على شخص يهودي ما يفترض أن يفكّر فيه أو يقوله عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي. أشعر بالفزع من روايتك المعادية للسامية التي تساوي بين النظام الإسرائيلي واليهود حول العالم. وأنا لا أفهم كيف، بالنظر إلى التاريخ الوحشي والعار الذي خلّفته المحرقة والاضطهاد الجماعي الذي شهد قتل اليهود وشعب الروما والسنتي، وكذلك المثليّين والشيوعيّين، كيف تساهمون اليوم بشكل فعّال في ثقافة يجري فيها تطبيع قمع خطاب الأشخاص الذين يواجهون الإبادة الجماعية".
وعدَّد ستال في رسالته مجموعةً من الوقائع التي منعت فيها السلطات الألمانية مظاهر التضامن مع فلسطين وأيّ اعتراض على الإبادة الجماعية، مؤكِّداً أن تصرّف رئيس "الهيئة الألمانية للتبادل الثقافي" يُسهم في إضفاء القانونية على مثل هذه التصرّفات، وأنّه ينأى بنفسه، كمثقّف وفنّان، أن يكون جزءاً من المناخ السياسي الجديد في ألمانيا، والذي شبّهه، من خلال كثير من الأمثلة، بفترة صعود النازية.
ودعا يوناس ستال جويباتر موخرجي إلى اتخاذ موقف حاسم، وذكّره أنه غير مجبَر على الاستمرار في هذه الإجراءات، وأنّه لا يزال هناك فرصة للتغيير، حيث إن "التكاليف التي نتكبّدها في حياتنا المهنية والمعيشية هي في النهاية تكاليف ضئيلة مقارنةً بأن تستيقظ يتيماً في غزّة أو تضطرّ إلى دفن أطفالك. أنت على الجانب الخطأ من التاريخ، وأتصوّر الوضع النفسي الذي تعشيه لتُبقي جداراً بينك وبين حقيقة السياسات المُعادية للسامية والعنصرية والقاتلة التي تضفي عليها الشرعية، ولكنّك لست مضطرّاً لفعل ذلك، بإمكانك أن تكون واحداً من أولئك الذين يكسرون حاجز الصمت، ويرفضون الانغماس في السلوك الاعتذاري لمن يشارك في الإبادة الجماعية".
تشاينا ميفيل: برنامجٌ مُخزٍ للقمع والعنصرية ومعاداة الفلسطينيّين
أمّا تشاينا ميفيل، فقد قرّر التخلي عن إقامته في برلين والانضمام إلى يوناس ستال، معلّقاً: "شاهدتُ برعب الأجواء السياسية في ألمانيا وهي تزداد سُميّة أكثر فأكثر، والقمع الذي يتعرّض له المتضامنون مع الفلسطينيين يزداد وحشية، والافتراء على النشطاء - بما في ذلك بالطبع أعداد كبيرة من النشطاء اليهود – باعتبارهم 'معادين للسامية' أكثر فأكثر فظاعة" مضيفاً لتبيان عدم مواصلته الاستفادة من الإقامة الفنية في برلين: "لا يُمكنني أن أقبل دعوةَ مؤسّسة لا يمكنني أن أثق في أنّها ستقف ضدّ هذا البرنامج المخزي للقمع والعنصرية المعادية للفلسطينيين"، وقال موجِّهاً كلامه إلى رئيس الهيئة و"جامعة كولونيا": "في الواقع، لقد أظهرتَ أنت استعدادك شخصياً لأن تكون جزءاً من هذا الحالة".
بعدها بأيام، انضمّت إيفا جاناكوبولو إلى ستال وميفيل، والتي جاء في رسالتها: "بينما عيناي شاخصتان إلى رفح حيث حمّام الدم وشيك الحدوث مرّةً أُخرى، وسط الاحتجاجات العنيفة التي يقوم بها الطلّاب في الجامعات الأمريكية وإسكات الأصوات التي تنادي بوقف إطلاق النار، لا خيار أمامي سوى الانضمام إليهم في نضالهم المُلحّ والضروري للدفاع عن حياة الإنسان والإنسانية والحرية الأكاديمية وحرية التعبير".
إيفا جاناكوبولو: أرفض أن ألتزم الصمت
من المُلفت في خطاب الفنّانين، المنحدرين من أصول مختلفة، تذكيرهم بالدور الذي لعبته بلدانهم، كلّ على حدة، في الجرائم النازية، قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، وذلك ربما في محاولة منهم للفت أنظار المسؤولين والمثقّفين الألمان إلى عدم جعل جرائم النازية سبباً لغضّ النظر عن جرائم بشعة مُعاصرة، بل محفّزاً ودافعاً للوقوف بقوّة ووضوح ضد هذه الجرائم.
في هذا السياق كتبت جانكوبولو مشيرةً إلى تعاون حكومة بلادها اليونان، آنذاك، مع النازيّين لتسليم اليهود اليونان إليهم: "بصفتي مواطنة في دولة أسهمت في الهولوكوست بتسليم مواطنيها اليهود للإبادة المحقّقة من دون سؤال؛ دولة جرى فيها الاستيلاء على الممتلكات اليهودية وتدمير الآثار اليهودية، أرفض أن ألتزم الصمت. ولهذا أنضمّ إلى يوناس ستال وتشاينا ميفيل والناشطين في ألمانيا وإسرائيل الذين يتجرّأون على المعارضة في جوّ استبدادي متزايد، وأولئك الموجودين في الجامعات الأميركية وفي كلّ مكان من الذين لا يزالون صامدين في دعمهم للقضية الفلسطينية".
وهي نفس النقطة التي لفت إليها يوناس ستال، الذي أشار إلى تورُّط بلاده هولندا في الهولوكوست: "وبصفتي مواطناً من بلد له تاريخ استعماري وحشي وتعاوُن فظيع مع النظام النازي، يجب أن أقول لكم: أنتم الآن جزء من مناخ أصبحت فيه عبارة 'لن يتكرّر أبدًا' هي 'مرّةً أُخرى'"، مشيراً إلى الشعار الذي ترفعه النخب السياسية في ألمانيا، حيث تؤكّد على مدى عقود أنّها لن تنزلق مجدّداً أبداً في الحالة التي أصابتها تحت حكم النازية.
يلفت الفنانون الأربعة، وغيرهم ممّن تنازل عن منح وجوائز ذات قيمة مادية ومعنوية عالية تقدِّمها مؤسّسات ألمانية، كما فعل مثلاً الفنّان التشكيلي المصري محمد عبلة حين تنازل عن وسام غوته الذي يُقدِّمه "معهد غوته الشهير، إلى ضرورة اتخاذ المثقّفين والفنّانين مواقف مبدئية تضع هذه المؤسّسات أمام التزاماتها الأخلاقية والثقافية، وألّا تُصبح أداة لإسكات الأصوات أو حرف نشاطها الثقافي.
ومنذ بدء العدوان على غزّة، بدأت الحكومة الألمانية نفسها تُعيد النظر في كلّ البرامج الثقافية والأدبية التي تدعمها أو تُوفَّر لها مخصّصات ومباني وأرضيات تنشأ وتتطوّر عليها تجارب فنّية وثقافية مختلفة، فقد فوجئت الدولة بالصوت المرتفع والاعتراض الكبير اللذين قُوبلت بهما سياساتها من غالبية المشاركين والمنضويين تحت هذه البرامج، خصوصاً أصحاب الإقامات الفنّية من الوافدين من دول مختلفة حول العالم، والذين رغم إقامتهم ونشاطهم في المدن الألمانية، خصوصاً برلين، فهُم لا يحملون العبء التاريخي في العلاقة المرتبكة مع اليهود و"إسرائيل"، الذي تتخبّط الدولة الألمانية في التعامل معه، لذلك نشطوا من خلال عروض فنّية وقراءات أدبية وندوات للمناقشة وتبادل الأفكار، فضلاً عن العمل السياسي النشط؛ كالنزول في المظاهرات المتضامنة مع الفلسطينيين، على خلاف ما اعتادت عليه النخب الثقافية الألمانية المتماشية مع سياسة الدولة بخصوص الدعم التام لـ"إسرائيل".
وكانت مواقف هؤلاء الكتّاب والفنّانين بمثابة انقلاب على سياسات الجهات التي تدعمهم وتقدّم لهم المنح، ما دفع بهذه المؤسّسات إلى اتخاذ خطوات اقصائية تعسّفية، أحياناً بمنع انعقاد عرض مسرحي أو مؤتمر ثقافي، أو إلغاء دعوة بسبب الآراء السياسية، كما حصل مع الأكاديمية الأميركية نانسي فريزر.