بخفّة أصعد نحو الموت

11 يناير 2016
صفوان داحول / سورية
+ الخط -

كانت أمي تقول إني مشيت أولى خطواتي باكراً، وإني نطقت أول كلماتي باكراً أيضاً، وإني احتجت وقتاً أقل في رحمها؛ لأخرج بعد ثمانية أشهر فقط طفلة بعيون واسعة ومفتوحة تماماً على عكس حديثي الولادة، وممتلئة بأكثر من أربعة كيلو غرامات لأطالب باستقلاليةٍ مبكرة وأسكن وحدي شهراً كاملاً في الخداج قبل أن أنضم إلى بيت العائلة.

ورغم امتلائي الزائد، إلاّ أنني كنت خفيفة الخطى؛ وذلك سبّبَ لي أولى النّدبات، فقد كان أبي، الذي لم أعرفه لاحقاً، لا يصدّق أني بدأت أمشي حقاً حين ركضت بخطواتي الطفلة نحو كأس اليانسون الساخن الذي كان يحمله، فحرق صدري وساعدي؛ ليظل أثره الخفيف موجوداً إلى الآن يذكّرني أن لا شيء سيحرقني إلاّ خُطاي.

***

كثيرون هم الموتى من عائلتي، وأعني عائلتي الصغيرة، أبي أمي وأكبر أخوتي. لم ينج أيُّ من الإخوة أو الأخوات، من مرضٍ أو جلطة، نحن عائلة لا تعمّر طويلاً، لذلك قررت أن أعيش.

أنا أصغر إخوتي، ولدت لأبٍ لا أذكره، فقد اختبرت اليتم قبل أن أُكمل عامي الأول، ولأم عليلةٍ أصلاً، كادت أن تموت أكثر من مرة وقت حملها بي وحتى وهي تلدني. وانتظرَت أقل من ستة عشر عاماً بعدها، لتموتَ بسكتةٍ دماغية. لأكبر بإعاقة لا شفاء منها اسمها اليُتم.

***

في محاولته الأولى معي، كان الموت طيباً، أعطاني الإشارة إلى أن الحياة تنساب من بين أصابعي، نجوت من محاولته الأولى، إلاّ أنه ترك لي أمراض العائلة.

وأنا أنطّ على درجات الثلاثين، تسقط حقيبة أدويتي؛ شريطٌ للسكر وآخر للضغط، مميّع للدم وآخر مهدِّئ للأعصاب، أسبرين للقلب ومضادات للاكتئاب وخوف الموت، واقٍ من الخثراتِ وآخر لأنزيمٍ في الكبد. معدتي ممتلئة بالحبوب الصغيرة وقلبي فارغ.

وأنا أتدحرج على درجات الثلاثين.. كان يجب أن يكون في حقيبتي قلم كحل أسود فقط، قنينة عطر، ومسكّن للصداع أيضاً.

***

كلنا أبناء الموت، إلاّ أننا عائلته المفضلة
وحين أنضمّ إلى من سبق من العائلة، ويسألني الأموات: ما الذي تركْتِه وراءكِ لأجل الأحياء؟ سأقول لهم بغصّةِ حلْقٍ يابس: الحياة.



* كاتبة من فلسطين والأردن


اقرأ أيضاً: لأنّك بسيطٌ ولا تُشبهني

دلالات
المساهمون