صدر قديماً: "فلسفة ابن خلدون" لـ طه حسين

10 مارس 2018
(تمثال ابن خلدون في تونس العاصمة، تصوير: سامي ملوحي)
+ الخط -

في عام 1917، قدّم طه حسين في باريس أطروحة عنوانها "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية: تحليل ونقد" لنيل إجازة دكتوراه من جامعة السوربون، وظلت هذه الأطروحة حبيسة اللغة الفرنسية حتى عام 1922، إلى أن ترجمها إلى العربية محمد عبد الله عنان المحامي، ونشرتها لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1925.

حتى تاريخ صدور هذه الأطروحة في اللغة العربية، كانت العناية الجادة بابن خلدون ومقدمته الشهيرة معروفة في اللغتين الألمانية والفرنسية منذ مطلع القرن التاسع عشر، مع ظهور دراسة للألماني شولتز في عام 1812، الذي أطلق عليه لقب "مونتسكيو العرب"، وترجمت المقدمة إلى الفرنسية بعد هذا التاريخ على يد دوسلان.

في الأوساط العربية، وحين وصلت أنباء الاهتمام الغربي بابن خلدون في أواخر القرن التاسع عشر، لم يدرك أحد مغزى وأهمية هذا الاهتمام، بل استغرب بعضهم أن يهتمّ الغربيون بهكذا مقدمة لم تكن في نظرهم ذات قيمة كبرى، ويتركوا ما لديهم من علوم أخرى.

مصر كانت أول بلد عربي تجري فيه دراسة مقدمة ابن خلدون، وجاءت مساهمة طه حسين رائدة في هذا المجال، وإن باللغة الفرنسية واعتماداً على مصادر فرنسية في معظمها، وبعض الاضطراب في فهمه لمنهج ابن خلدون وغاية "مقدمته" حين اعتبر أفضل ما قدّمه، ليس وضعه لأسس علمِ اجتماعٍ، ومنهجٍ في فلسفة التاريخ الحضاري، ومبادئ التربية وتخطيط المدن، بل في مكان آخر، حيث رأى "أن طرافته تعظم حين يتكلم في المسائل السياسية"، وفي انفراده "في فصل السياسة عن الأخلاق وعلم الكلام والفقه بعد أن كانت إلى عهده ممتزجة بهما".

هذه الرؤية إفقار لصاحب "المقدمة"، وغمط لحقه في ابتداعه لعلم جديد ولأول مرة، كانت تتوفر منه شظايا وملحوظات جزئية قبله، إلا أنه ابتكر منهج هذا العلم ونظم مسائله وأطلق عليه اسم "دراسة العمران البشري والاجتماع الإنساني"، وجاء بأكثر مبادئ هذا العلم المنهجية أهمية على الإطلاق؛ أي "بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته". وهو ما يعني ظهور أول نبأة عن المنهج المادي في الفكر العربي بشكل جليّ، وأول نبأة عن ظهور منطق جدلي ينقض منطق أرسطو الشكلي، أي اعتمد منطق الصيرورة بتعبير علي الوردي، أو المنطق "الديالكتيكي" كما هي تسميته في الأزمنة الحديثة.

هذا هو الأساس الفلسفي الذي يقف عليه مبنى "مقدمة" ابن خلدون، وهو ما فات طه حسين حتى وهو يختار من كل ما أنجزه صاحب "المقدمة" الجانب الذي سمّاه "الفلسفة الاجتماعية".

تبدأ الأطروحة بفصل استفاض فيه الباحث في شرح ما سماه "دسائس" ابن خلدون السياسية، وانغماره في الصراعات الدائرة على السلطة في تلك الأيام، في الأندلس وبلدان المغرب العربي، إلا أنه سرعان ما يتخلى عن متابعة ما يشبه الخريطة النفسية للرجل، ويقول أنه "يود أن يقدّم للقارئ فلسفة ابن خلدون بطريقة صحيحة جهد الاستطاعة، وبأسلوب يقرّبها من الأذهان الحديثة التي لم تعتد كثيراً درس الفلسفة الإسلامية"، ويضيف "إن الذي يعنينا من أمره توقّد ذكائه وسموّ فكره ذي الرجاحة النادرة، وسعة معارفه ورسوخها، وطرافة آرائه، ونفاسة مؤلفاته.. فإليه يرجع الفضل في أن الآداب العربية تستطيع أن تفخر بأنها كانت الأولى في وضع الفلسفة الاجتماعية في قالب علمي، ومن السخف أن نتمسّك بجوانب ضعف إنسانية جداً لنتوصّل بذلك إلى أن ننتقص من فضل شخصية لا ريب في عظمتها".

ويمكن أن نضيف هنا إلى اضطراب الباحث في تحديد طبيعة مشروع ابن خلدون الفكري، مناقضته لنفسه، فإلى جوار هذا الذي ذكره، نجده في مواضع أخرى يتهم ابن خلدون مرة بالسذاجة، ومرة بالجهل، ومرة بالنزعة الفردية، ويأخذ عليه، في نظرته إلى التاريخ، ما ليس من أهدافه، فيقول "المسألة الأساسية في التاريخ فاتته، فهو لا يُعنى بالبحث عن المصادر ولا يفحصها مع أن ذلك هو أول ما يجب على المؤرخ.. بل هو يحاول بالأخص أن يتأمل الوقائع المستكشفة في نوع من الفلسفة موضوعها المجتمع البشري".

ويبدو أن ما يسمّيه "تأمل الوقائع في نوع من الفلسفة" هو الذي فات الناقد معناه، لأن هذا هو بالضبط مسار صاحب "المقدمة" في وضع قواعد فلسفة تاريخ الحضارة الواردة في مصطلحه "العمران البشري والاجتماع الإنساني"، وليس كتابة تاريخ أو القيام بوظيفة مؤرخ، أو لعب دور المفكر "السياسي".

على أن أكثر ما يسترعي الانتباه لدى طه حسين هو أنه على رغم تنويهه بإساءة فهم بعض الباحثين الغربيين لابن خلدون بسبب أخطاء في الترجمة، لم يتوقف ولو لحظة واحدة حين أخطأ فأخذ على ابن خلدون أنه "يتدرّج من بحثه العميق عن القبيلة البدوية وما تستطيع عمله إلى الحكم على الأمة العربية تبعاً لمنهجه، وقد انتهى إلى أن أصدر حكمه على العرب، وغمط العرب حقهم وشدّد النكير عليهم". وذهب يبحث عمّا سمّاه "منشأ التعسّف بحق العرب" تارة لدى "الأمة الفارسية التي أخضعها العرب ولم تدّخر وسعاً في الانتقام لنفسها" وتارة في حالة العرب الذين "كانوا يئنون في إسبانيا من جور نصارى الإسبان" ولهذا ازدراهم ابن خلدون، وتارة لأنه "عاش في الأسر البربرية المجاهرة بعدائها للعرب".

بعد ذلك يورد صاحب "الأيام" ما يشبه رداً على ما سمّاه "تعسّف" ابن خلدون، فيذكر "أن العرب شادوا وعمروا"، ولم يكونوا كما قال ابن خلدون "لا يتغلبون على قطر إلا أصابه الخراب المطلق"، وإذا "كان ابن خلدون لم يفهم بأحسن مما فهم أن الحضارة التي تمتع بها هي من صنع العرب، فلا ريب أن ذلك لأن المذهب الذي يدرس به التاريخ ضيق جداً".

إلا أنه في كلا الحالين؛ حال فهمه لمصطلح "العرب" كصفة جامعة للأمة العربية، وهو ما لم يرد في مقدمة ابن خلدون بهذا المعنى، وحال نقضه لرأي ابن خلدون، لم يرجع ويتأمل معنى كلمة "عرب" في اصطلاح مقدمة ابن خلدون حيث وردت. هذا المصطلح ورد في عدة سياقات بدلالة محدّدة. هذه السياقات هي: "ينتهبون ما قدروا عليه.. ويفرون إلى منتجعهم في (القفر)"، وأيضاً "إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد (التوحش)"، و"الحجر مثلاً إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي القدر.. والخشب أيضاً لحاجتهم إليه ليعمروا "خيامهم"، وأخيراً في قوله "هم أبعد الأمم عن سياسة الملك، والسبب في ذلك أنهم أكثر "بداوة" من سائر الأمم وأبعد مجالاً في (القفر)".

والواضح من هذه السياقات أن مصطلح "عرب" هنا يعني نظاماً أو وضعية معاش اجتماعي محدد، الحياة في القفار، وفي ظل الخيام، أي بعيداً عن العمران، والتوحش، أي الافتقار إلى الحياة المدنية، وهو ما تلخصه كلمة "البداوة" كما عرفها ابن خلدون في زمنه، ولم يكن ذهنه منصرفاً إلى الحديث عن "أمة عربية" أو "عرق" أو "نظام اجتماعي" من النظم العربية القائمة آنذاك في الجزيرة العربية جنوباً في اليمن وحضرموت، حيث كان يُستخدم اصطلاح شعب للدلالة على طبيعة مجتمعات عربية مدنية مستقرة، أو شمالاً في وادي الرافدين، أو غرباً في مصر وبلدان المغرب العربي أو الأندلس.

ويمكن أن نجد القول الفصل في أن كلمة "عرب" كانت تعني اصطلاحاً لدى ابن خلدون "بدو" أمة من الأمم وليس الأمة بمجملها، في سطوره التالية: "في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع، والسبب في ذلك أنهم أعرق في البداوة وأبعد عن العمران الحضري.. وأما من كان معاشهم من الإبل فهم أكثر ظعناً وأبعد في القفر مجالاً.. فكانوا لذلك أشد الناس توحشاً، وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه.. وهؤلاء هم العرب وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب، والأكراد والتركمان والترك بالمشرق". هنا من الجلي التمييز بين نظامين اجتماعيين، أهل القفار وأهل الحواضر، ولهذا جاءت إشارة ابن خلدون إلى الظاعنين؛ "عرب" البربر وزناتة في المغرب "وعرب" الأكراد والتركمان والترك في المشرق دقيقةً، أي من يظعن منهم في القفار.

وأخيراً، هل يعقل أن رجلاً في "رجاحة فكر وتوقد ذكاء" ابن خلدون الذي عاش وتنقل بين الحواضر العربية، لم يكن يرى فيمن حوله من أصحاب الصنائع والعلوم والصروح المعمارية والمكتبات عرباً وليسوا أصحاب قفارٍ وتوحّش؟

المساهمون