عودة إلى قابس

07 نوفمبر 2016
مقطع من "تمر حنّة"، رضا عبد الرحمن/ مصر
+ الخط -

أعرف هذه المحطّات الصغيرة المطليّة بياضاً في النور الساطع، حيث يقف القطار ليركب أو ينزل أحد المسافرين ثم يغيب في الريف القاحل الشاسع. أعرف كلّ هذه المحطّات، محطّة محطّة، أشجار الفلفل المحيطة بها، نبتاتها الأمامية المزهرة بمعجزة.

هنا، وقعت معركة كبيرة في الحرب العالمية الثانية. هناك، حملت الفيضانات العنيفة، الطريق والسدّ. عن بعد تلوح خيام آخر البدو الموزّعين على الأرض الوعرة الجاحدة. هم بدوٌ دون ترحال. لم أركب القطار ولو مرّة واحدة من دون أن تجتاحني عاطفة قويّة أو أكون متأثّراً. القطار لا تهمّه أحاسيسي ومشاعري. هو يصفّر بقوّة لينبّه راعياً مُجازفاً أو ليسلّم على حارس الحاجز.
وفجأة تلوح الواحة.

عند أبواب الصحراء هديّة خضراء. يحاذي القطار البحر وتشقّ السكّة الحديدية طريقها بين مئات أشجار النخيل. وتتصاعد من الغابة روائح النبات الممزوجة بروائح الطحالب والأعشاب البحرية.

على الرمال نشر الأهالي في الشمس سعفاً طرياً وجريداً ليّناً ليتجفّف حتّى يستعملوه فيما بعد لصُنع السّلال والمروحات اليدوية والمِظلات الشّمسية. تحت الشمس الحارقة تلمع كالفضّة آلاف الأسماك الصغيرة الملقية على الشاطئ تسمّى"الوزف" والتي يستعملها الأهالي بشغف في أطعمتهم. ولحماية السكّة الحديدية من زحف الرمال، أُقيمت أعمدة من حديد وقطع خشبية. في صراع مع الحرارة المرهقة. أتمنّى لو يصل موج البحر إلى مقعدي في القطار!

عبر النافذة ألمح الميناء والمنار الأحمر الصّغير، قوارب الصيّادين والأمواج البيضاء المزبدة وهي تغازل عتبات الفنادق، ألمح الشاطئ الشاسع والحيطان المحترقة بالشمس. هكذا وكأنّ النعاس تغلّب عليه. يدخل القطار الواحة - المدينة وقلبي كله خفقان. مرحباً يا صيف!

أجدك عزيزتي في إيقاع الخيول وهي تجرّ العربات، في الصخور الشاهقة التي خلّفتها المدينة الأثرية الرومانية "طكابس"، في الأحجار الصلبة الوردية.

أجدك في أجمل حلّة مزهوة بألف نسيج وحرير في سوق "جارة" وقد تراكمت فيه أكوام الحنّاء والبخور والتوابل والمجوهرات.

أجدك في سرّ "عين سلام" في "المنزل"، في هيبة ضريح سيدي أبي لبابة، في المقبرة الضخمة المجاورة له حيث يرقد أبي في قبره.

أجدك صديقتي في واحة شننّي أين تحمل المسارب بقايا خطاي الصغيرة وأنا تلميذ، طفل مسحور بكل هذه البساتين التي تَغنّى بها بلين والتيجاني.

هذه الجنّة هي جنتي يختلط فيها النخل بأشجار الرّمان، والكروم بأشجار الموز، الخوخ بالمشمش، نبتات الحناء بالتبغ، يطير فيها قلبي مع الطيور ويبني لها من العبث فخاً دون قيود.

أجدك حبيبتي في أصوات السواقي، بين النجوم التي تواسيني، في رهبة الليل وأمّي تتألّم من مرضها الطويل.

بعد سنين طوال: عودة من المنفى، رجوع إلى حدّ الدموع، عبور الصمت، عبور الغياب.

القطار لا يزال على حاله ولكنّ فيه مكيّفاً بارداً كالثلاجة لا يمكن تعديله، تخاف فيه على نفسك من الزكام. المنطقة الصناعيّة سرقتْ ماء الواحة. أتى التلوّث على النخل فأصابته الكآبة. حبس الهواء أنفاسه حتّى لا يختنق.

للشاطئ الآن أعمدة للإنارة وممشى للتنزه العائلي. أُخلي الكازينو من الخمور. سُمّمت الأسماك واسودّ البحر وأصبح يلفظ طحالبه الميّتة.

عليّ أن أهرب عشرات الكيلومترات حتّى أعثر عليك يا بحر. سأذهب لملاقاتك وأشكو حزني للأمواج!


* شاعر وكاتب تونسي مقيم في فرنسا

المساهمون