لم يعد أحد يقرأ الظاهر في النص، تفوّق عليه المستور والمخفي. ولا يقرأ النص الإبداعي على وجه واحد من القراءة. لا الرواية ولا القصيدة ولا المسرحية، بل إن بعض المدارس الحديثة باتت تقرأ النصوص التاريخية، معتبرةً أنها لا تقول الحقيقة في الظاهر، بل تخبّئها بين السطور.
ربما كانت هذه هي طبيعة النص المكتوب منذ أن تعلّم الإنسان الكتابة والقراءة، سواء كنا نتحدّث عن نص ديني، وهو أكثر النصوص التي تعرّضت لإخفاء الظاهر فيها، بدليل وجود العشرات من الملل داخل كل دين من الديانات المعروفة، أو كان نصّاً دنيوياً، ابتداءً من أوّل قصيدة شعرية كُتبت في التاريخ، وانتهاءً بآخر ما يُكتب اليوم.
عاشت القراءة. فهي التي تمنح الكتابة روحها وقدرتها على البقاء والاستمرار. أو هي التي تمنحها حقّها في الوجود الإنساني، بدل أن تظلّ مخبَّأة في الخزائن. القراءة عدوّة الخزانة، فهي تلغيها وتحوّلها إلى رفّ للحفظ، لا للنسيان. وأفضل ما ُيقال عن أي عمل أدبي هو أنه متعدّد القراءات. وهذا مبعث فخر للكتاب، أو هو أمنية لأيّ كاتب أن يتمكّن من كتابة عمل لا يُقرأ على وجه واحد من الوجوه، لأن تلك الأعمال الأدبية التي يقرأها الجميع قراءةً واحدة وحسب، تَحكم على نفسها بالزوال من بين ما يُسمّى الأعمال الخالدة.
فـ"النص يجاوز ذاته إلى شيء آخر غير ما هو عليه". وهذا يعني أنك حين تكتب أيّ جملة في روايتك أو قصيدتك أو مسرحيتك، فإنك لا تقصد ما تقوله الكلمات، بل ما يختفي وراء الكلمات. هل هذا حقيقي فعلاً؟ هل يمكن توجيه هذا السؤال إلى الروائيّين والشعراء والمسرحيّين للتأكُّد من أنهم لا يقصدون الظاهر ممّا يكتبون؟
الأمر محيّر بالفعل، إذ إن السؤال البديهي هو الآتي: لماذا لا يقول الكاتب ما يختفي وراء الكلمات إذن من البداية، ويمتنع عن قول الكلام الذي يخفي الأصل؟ أم قلّما يفكّر الكتّاب أن وراء كلمات قصائدهم، أو مسرحياتهم، أو رواياتهم معانيَ أخرى غير ما قصدوا إليه؟
حسناً، بات الجميع يقرّون أنهم لا يملكون السلطة الكاملة على النصوص التي يكتبونها، بعد أن تصبح كتباً في متناول القرّاء. فهل يقولون هذا بسبب نظريات القراءة؟ هل باتت القراءة تغري الكاتب على إخفاء المعنى بنفسه؟
غير أنّ هذه القراءة التي تعيد للكتابة معناها، هي التي قد تمضي بها في وجهات أخرى لم تقصدها البتة. فهناك قراءة تؤوّل النص، وقراءة تجبر النص على قول ما لم يقل.
فإذا كان صحيحاً أن النصّ لا يقدّم نفسه من القراءة الأولى، فأي قراءة هي تلك التي يمكن أن تقدّم لنا المعاني الحقيقية التي يستبطنها النص؟ ومن يضمن ألّا يؤدّي تعدّد القراءات إلى تعدّد المعارك والشجارات؟ فالكثير من القراءات التي أفضت أحياناً إلى التصفيات الجسدية نجمت عن قراءة النصوص لا عن كتابتها. ولدينا لائحة غنية من أسماء الضحايا.
فهل يصبح ما بين السطور مسؤولاً عن حياة كاتب السطور؟
* روائي من سورية