تهريب الكلام

28 ابريل 2017
عبد الكريم مجدل بيك/ سورية
+ الخط -
بقربي التقى شابان يرتديان اللباس العسكري. يتبادلان سلاماً حاراً، وكلمات طيبة، ثم يسأل أحدهما الآخر: "منذ متى وأنت في الجيش؟"، فيجيب: "منذ بداية الأزمة. وأنت؟" يقول الأول: "قبل الأزمة بثلاثة أشهر".

يقال مثل هذا الكلام في بلد لم يمر عليه يوم واحد، منذ ست سنوات، دون أن تكون الدماء وأشلاء القتلى هي التي تتصدّر عناوين نشرات الأخبار.

ويبدو لمن يتتبّع تحولات التخاطب ولغة الحوار اليومي أن السوريين باتوا يتداولون كلمة "الأزمة" كما لو كانت الحل اللغوي السحري الآمن لكل ما يحدث في الداخل. ولا يفرّق القائلون بهذه المفردة بين "الأزمات" كافة. فـ"أزمة" البلاد العامة، تماثل لغوياً أزمة فقدان الوقود، أو رداءة الخبز، أو الفلتان الأمني، أو أزمة الثقافة العربية.

وتبدو كلمة "الأزمة" قادرة على استيعاب الجميع، ولا تثار الخلافات بين المتلفظين بها، حتى لو كانوا من اتجاهات تتسم العلاقات بينها بالعداء. وهي تعكس في هذه الحالة رغبة في التخلّص من المماحكات المتعلقة بتوصيف ما يحدث على الأرض أوفي الجدال السياسي والأيديولوجي. وقد يكون هروباً من صراع خفي، أو ميل لتواطؤ أكثر خفاء على المفردة الأخرى التي لا يريدها المستخدمون، وهي مفردة "الثورة".

ويزداد عدد الذين يتبنون المفردة، كلما ازداد الغموض وغابت المشاريع الوطنية وعمّت فوضى الأفكار والحلول. ومن المناصرين لحديث الأزمة بعض المعارضين الذين لم يؤيدوا الثورة، وقد خلصتهم المفردة من الحرج الوجودي والسياسي في حال اعترفوا بوجودها.

وهنا يمكن أن تسمع من يتحدّث عن مكر اللغة، ولكنك سوف تسأله في ما إذا لم يكن مكراً للكائن. وأكثر أنصار "الأزمة" لؤماً هم المهرّبون والسماسرة وأمراء الحرب وقطاع الطرق، فهي تعني زيادات كبيرة في حساباتهم المالية. ويمكن أن تسمعهم يرددون بلا حياء عبارة: "الله يديم هالأزمة".

والغريب في هذا الشأن أن يجتمع المهرّب وتاجر السلاح، مع المثقف والسياسي في توصيف الحالة. والمريع هنا أن المهرّب يستخدم المفردة بلا رتوش ولا تحسينات، فيما "يهرّب" السياسي المفردة إلى التداول اليومي بخبث. وهناك من يعتقد أن عليها أن تشتد كي تفرج.

وكلما ازدادت المعارك حدة، أو ازداد عدد المتدخلين في سورية من الخارج، اعتقدوا أن "الأزمة " سوف تفرج، وهو يعكس إيماناً شبه قدري بقرب النهاية، استناداً إلى قول ابن النحوي: "اشتدي أزمة تنفرجي/ قد آذن ليلك بالبلج". دون أن يلاحظوا أن فارق التاريخ يؤكد على استمرار الأزمات. لا على الخلاص منها.

واللافت أن يكون بول هازار قد كتب مؤلفه الضخم "أزمة الضمير الأوروبي" كي يبحث في الأزمات الفكرية والثقافية والسياسية التي أدّت إلى قيام الثورة الفرنسية، أي أن الثورة في تقديره، قد كانت حلاً للأزمة. أما في بعض اتجاهات التفكير العربي الراهن فإن الأزمة ترجو إلغاء الثورة.

لهذا يبدو مصطلح الأزمة وسيلة ماكرة للهروب من سؤال المقدّمات التي أدّت إلى نهوض الثورات العربية في السنوات الماضية، أو إلى انكسارها. وسبيلاً للفرار من استحقاقات الزمن الحاضر الذي يحاصر مستخدميها، إلى كلمة تحاصر الزمن، وتمنح السوري أو العربي الذي يؤمن بها "حياداً" يضمن له عدم الدخول في صراع جانبي.

"الأزمة" فسحة لتثبيت الحاضر، والتعتيم على القادم الغامض. فرار من المواجهة مع الحقيقة التي فشلت، أو دمرت، أو سرقت. ولا أحد يريد أن يتذكر أننا في السنين الطويلة الماضية، لم نكن نحصل، حين نعترف بوجود أزمات في حياتنا ، إلا على نعمة "سر الاعتراف".


* روائي سوري

المساهمون