حتى الشهر السادس أو السابع من "الانتفاضة الفلسطينية الثانية"، التي حلّت ذكرى اشتعالها أمس، وتحديداً عشية العملية الفدائية التي نفّذها شاب فلسطيني وسط مدينة تل أبيب، في ملهى "الدولفيناريوم"، كنّا نسأل أنفسنا، دائماً، هل حقّاً وصلنا إلى ذلك الطريق الذي يُطلَق عليه تشاؤماً طريقاً مسدوداً؟ طريقاً مسدوداً في نطاق تساؤلات الناس: إلى أين نحن ذاهبون؟
أحدثت العملية زلزالاً مدوياً، نظراً إلى حجم القتلى في صفوف المستعمِرين الإسرائيليّين، وحجم ضخم كهذا سيدفع بالضرورة ردّاً إسرائيلياً عسكرياً مؤكداً إلى واجهة يوميات الفلسطينيّين.
دخلنا في موجة انتظار رد الاحتلال على العملية، ولكن وقبل أن تتجلّى قدرة الشارع على توقّع الرد، كان علينا أن نعرف أوّلاً هوية منفّذ العملية، وبالتالي مكان سكنه. تأخّرَ الفصيل في إعلان المسؤولية، وعجزت "إسرائيل" عن معرفة هوية المنفّذ. كنتُ طالباً جامعياً، وأكاد أجزم أن كل طالب في الجامعة كان يتمنّى أن يكون منفّذُ العملية من مدينته، لا فخر أكبر من أن تجاور فدائياً في السكن أو في الحي أو في المدينة كلّها.
استمرَّ الغموض لثلاثة أيام، واستمرّت معه حفلة الأمنيات إلى أن أَعلن الفصيل مسؤوليته ورُفع الستار عن هويّة منفّذ العملية. كانت سعادتنا غامرةً أنّ منفّذ العملية من مدينتنا نحن. إنها جدارة الاحتفاء، ثم نالت المدينة ما نالته من "عقاب".
يومان بعد العملية، وأثناء عودتي إلى المنزل، صادفتُ جماهير غفيرة تركض في الشارع، الكلّ يركض إلى الجهة الشمالية، إلى معبر قلقيلية الشمالي. استوضحتُ الأمر من أحد الراكضين، فأشار إليّ أن مجموعة إسرائيلية مسلّحة من "مستعمري" المستعمَرة المجاورة ستُقدم على اقتحام المدينة، وبدأت أركض مع الجماهير، كنا نركض صامتين.
حمل الناس أثناء الركض سكاكين كبيرة ومعاول وعصيّاً. كان مشهداً أسطورياً لحفلة الركض الصامتة المسرعة إلى المعبر الشمالي، شاهدتُ فيها سفيراً لفلسطين في إحدى دول أوروبا الشرقية يركض أمامي حاملاً سلاح كلاشينكوف. كان مشهد الركض إجابة بليغة على سؤال إلى أين نحن ذاهبون؟!
وصلنا المعبر إلى الشمالي، وكان فارغاً، لا أحد هناك، شارع فارغ ومعتم، ومليء بالعيون المتوجّسة. قرّرنا العودة من حيث أتينا. قالوا يومها إنها إشاعة بثّها أعوان الاحتلال وعيونه حتى تتشتّت أذهان الناس ويدبّ الذعر في قلوبهم، وقالوا إن الاحتلال يريد أن يختبر متانة الجماهير واستجابتهم للمتغيّرات الطارئة، خصوصاً لعمليات المستعمرين، وقالوا إنه الذعر، الذعر فقط، من كل شيء يتحرّك في خلاء حدود المدينة.
وصلت سيارة إسعاف مسرعة إلى مستشفى وكالة الغوث محمَّلةً بشخص يعاني اضطرابات عقلية ومصابٍ في فخده وظهره برصاص أبراج المراقبة الإسرائيلية، قالوا إنه ضل الطريق إلى الحدود، فأُطلقت النيران صوبه. استشعر الناس حركة غريبة هناك وأصواتاً لإطلاق النار فظنّوا أن المستعمرين على وشك الاقتحام.
في تلك الأيام، لم تكن اجتياحات الدبابات والطائرات للمدن قد بدأت بعد، توقّفت الانتفاضة عند حدود الاشتباكات على حدود المدن. أراقت "إسرائيل" الكثير من دماء متظاهري الحجارة، فحلّ محلّهم مسلّحون بالبنادق الرشّاشة. في تلك الأيام تحديداً تُرك الريف الفلسطيني يواجه هجمات المستعمِرين المسلّحين ليلاً ونهاراً.
شُكّلت لجان الحراسة في الريف مسلّحةً بالعصي والمولوتوف، ونجحت مليشياتهم في اختطاف العديد من الشبّان والرجال الذين وُجدت جثثهم بعد ذلك بآثار حروق وطعنات وإصابات بالأعيرة النارية. أطلقت "إسرائيل" العنان لمليشيات المستعمِرين على السكّان العزّل، كمن يطلق كلاباً ضالّة، وزوّدتهم بالعتاد والحماية.
أرادت "إسرائيل" أن تنفخ بالون الرعب الفلسطيني، بالتوازي مع حالة رعب "المجتمع الإسرائيلي" من العمليات الفلسطينية. في أحد تلك الأيام، استفاق الناس على أصوات مكبّرات الصوت القادمة من المساجد تطالب الناس بالخروج للدفاع عن المدينة، لكن هذه المرّة أمام الدبابات. كان الصوت متوسّلاً ومرعوباً، وكأنه صوت ما قبل نهاية العالم. خرج من خرج إلى الشوارع، وظلّ من ظلّ في المنازل.
مرّةً قال لي صديق يكبرني سناً، إن السبب الأول للجُبن والنكوص والتقوقع في غرفة الخوف المظلمة، هو العقل، أسئلة الجدوى، وحسابات الربح. لا تستطيع أن تكون شجاعاً فيما أنت تفكر في جدوى ما تفعله، أو في مصيرك الفردي الخالص، وإلا كيف نفهم، اندفاع الشعب العاري، اندفاعَ شبّان لإطلاق النار من بنادق خفيفة على دبّابات مضادّة للألغام الأرضية والصواريخ الموجّهة من دون تلك الشجاعة التي تلغي العقل، وتستغني عنه، وتزيحه بعيداً. كانت الانتفاضة الثانية كلّها محض ركض مسرع بعيداً عن العقل، وبالقرب تماماً من القلب.
* كاتب من فلسطين