"الشريعة" في جامعات فرنسا: هيمنة المتخيّل الغربي

22 نوفمبر 2016
جامع باريس الكبير، 2015، تصوير: جويل ساجيه
+ الخط -

دفعت الأحداث التي هزّت فرنسا جمهور القرَّاء الفرنسيين إلى التساؤل عن معنى كلمة "الشريعة"، بعد أن شاع استخدامها في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي الغربية، كما في خطابات رجال السياسة، ولا سيما المنتمين منهم إلى أحزاب اليمين. ولما غلب، في الاستعمال الدارج، استنساخها بمقابل صوتيٍّ: Chari‘a، ازدادَ المَفهوم في الأذهان غرابةً وغموضاً، وظلَّ يُقابل بنوعٍ من الريبة والارتياع، بمجرد النطق به.

وقد تجلّى هذا الاهتمام الكبير في عَدَد الكتب الصادرة، طيلة السنتيْن الماضيتين في فرنسا، لشرح هذا المفهوم وتوضيح دلالاته لجمهور المتابعين. ومن هذه الإصدارات كتابُ جَيْبٍ صدر منذ أشهرٍ، يَلفت النظرَ بصغر حَجمه، وبصورة غلافه: فهو يَحمل هذا العنوان الجاف، دون توصيف ولا إلحاق: La Charia "الشريعة" (منشورات دالوز، باريس). وقد كُتب هذا العنوان بالحَرف العربي مزيداً في إغراء القراء وإثارة فضولهم.

كاتباه من ذوي الاختصاص في هذا الميدان؛ ناتلي برنار - موجيرون، وهي مختصّة في الفقه الإسلامي، ولا سيما تطوّراته في مصر خلال العصر الحديث، ورَجل القانون الفرنسي؛ جون فيليب برا، الأستاذ في علم القانون المدني، في "جامعة روان" في فرنسا. والكتاب نتاج محاولة لافتة للجمع بين الخبرة في دراسات الإسلاميات (اختصاص: فقه) مع الخبرة القانونية الصرفة (القانون المدني)، وقد احتوى هذا المؤلَّف على فصول ثلاثةٍ.

عالج الفصل الأول منه أصول الشريعة ومَصادرها المعروفة، أي: القرآن والسنّة، وأضيف إليهما مفهوم السياسة الشرعية، أي قدرة الحاكم على استخدام العقل، قياساً واجتهاداً، في ما يظنّه مصلحةً للأمة، وما يتبع تلك القرارات من آليات الاستنباط التي نَظَّر لها علماء أصول الفقه. كما ألحقا به ما وصل إليه هذا العلم، من إصلاحات في عصر النهضة، من تطبيق لقواعد شرعية جديدة، جلّها مستمد من الاتصال بالغرب وقوانينه.

وفي القسم الثاني، تطرّق الكاتبان إلى وضع "الشريعة"، في دساتير الدول الإسلامية المستقلة، وما آلت إليه عمليات تقنين الفقه التي أنجزها رجال القانون المسلمون، ولا سيما في مجالَي القانون الجزائي وقانون الأحوال الشخصية، حين قرّرت جل الدول العربية - الإسلامية اعتماد الشريعة إما مصدراً من مصادر تشريعاتها العديدة، أو اعتبارها أهمَّ مصدر فيها، أو إلغائِها تماماً، ولو إلى حين. ورَكَّزا في هذا العرض على قضيّتيْ الطلاق وتعدّد الزوجات.

وفي القسم الأخير، عالج الكاتبان الاستعمالات المعاصرة للمصطلح بالتشديد على حضور المصطلح في خطابات الأحزاب الغربية، والسلفية الإسلامية، إلى جانب تعامل القاضي الفرنسي مع بعض مبادئ الفقه، ولا سيما في القضايا التي يكون فيها "المتقاضون" الفرنسيون منتمين إلى الديانة الإسلامية. هذا، وخُصِّصَ الفصل الأخير للكيفيات المختلفة التي استحضر من خلالها ناشطو الربيع العربي، من إسلاميين وعلمانيين، مفهوم الشريعة فرفعوه شعاراً، أو اتخذوه ستاراً أو حاربوه باعتباره رديف الظلامية والرجعية.

لعل أصالة الكتاب تكمن في قدرته على رَصد كلِّ التحوّلات الدلالية التي طرأت على مفهوم الشريعة المتموِّج، فعمل الكاتبان على نَزع هالة الغموض والقداسة عنه، ونظرا إليه باعتباره مفهوماً حيّاً، تَتَغيّر دلالته بتغيّر السياقات الثقافية والتوظيفات الإيديولوجية، شأنه في ذلكَ شأن كل المفاهيم المجرّدة التي تتحوّل دلالاتها بحسب مصالح الجِهات الموظفة لها، والرهانات التي يُسعى إلى تحقيقها من خلاله.

كما يُحسب للكتاب أسلوبه التبسيطي مع الدقة، ففي صفحات قليلة، التي يلائمها حجمُ كتابِ جَيْبٍ، تَمكن الباحثان من عرض أهم المعلومات الضرورية لإعطاء فكرة ضافية عن هذا المبدأ المعقد، وللقارئ المستزيد أن يعمق معارفه بقراءات خاصة.

ذلك أنَّ الأخبار المتتابعة والتصريحات المتعاقبة عن تطبيق الشريعة، بعيد اندلاع الثورات العربية، ألهبت حماسة الملاحظين لدراسة المفهوم، وقلَّ، ضمن المتابعين للشأن العربي، أن يعرفَ أحدهم للشريعة معنى آخر سوى قطع اليد والرجم، لا سيما بعد الأعمال الفظيعة التي قامت بها بعض الحركات والمنظمات الإرهابية بدعوى تطبيقها الصارم للإسلام. فالكتاب يبسّط المفاهيم ويذكّر بتطوّراتها خلال القرون الماضية.

يتضمّن الكتاب أيضاً ترجمة العديد من النصوص العربية الفقهية والقانونية إلى اللسان الفرنسي، كإيراد الآيات التي ورد فيها مصطلح "الشريعة"، والاستشهاد بنصوص فقهية قديمة، مثل تلك التي صاغها ابن قدامة في كتاب "المُغْني"، أو الوَنْشَريسي في "المِعيار المُغْرِب"، وكذلك بنصوص صيغت في العصر الحديث، كفصولٍ من المدونة المغربية، أو أجزاء من القانون الأساسي السعودي، والدستور المصري.

كما أضاف المؤلفان إليها مقتطفات مطوّلة من القرارات القضائية الفرنسية، وهو ما يهدي للقارئ ثقافة نصية قانونية متحدّرة من بيئات قيمية متنافرة، تضعه أمام مشكلة التضارب القيمي في المجتمعات العربية - الإسلامية اليوم، الناتج عن التقاء مرجعيات قيمية متنافرة.

فللكتاب فَضل تقريب مفاهيم شديدة الصعوبة والتعقيد، مثل العلاقة الغامضة بين الشريعة والفقه، والأسباب الدلالية - الألسنية التي تختفي وراء ظهور المذاهب الفقهية، علماً أنَّ عددها، في العصر العباسي، تجاوز الأربعةَ عشر مذهباً، واختلافها في تطبيق تلك المبادئ على الفروع والأحكام الجزئية.

على أنَّ التبسيط الطاغي في الكتاب قد أفضى إلى ضربٍ من التسطيح حين يتعلّق الأمر بمقاربة المسائل الجوهرية في تاريخ الفقه مثل قضايا: ظَنِّية الأحكام، والترجيح بينها، وكيفيات دلالة اللفظ على المعنى من عمومٍ وخصوص، وتقييدٍ وإطلاقٍ وغير ذلك، هذا عدا السكوت عن وجود مدارس الفقه الظاهري، والجعفري، وغيرها من المدارس التي انقرض أتباعها.

وقد تُغفَل هذه الجوانب المركزية بسبب انتقائية لا شعورية، تفرض على الباحث، وتجعله مُنْشَدّاً إلى التمثّل الاجتماعي السلبي عن الشريعة الذي يربطها حصرياً بمسائل الأحوال الشخصية وقواعد الفقه الجِنائي مع السكوت التام - وغالباً ما يكون السكوت مريباً ودالاً أكثر من المتكلّم عنه - عن فقه العبادات التي تشكّل أكثر من ستين بالمئة من كل مذهب، بالإضافة إلى فقه المعاملات، ولا سيما المالية والتجارية التي تزدهر اليوم في الأسواق العالمية والآسيوية.

ولعل هذه الانتقائية من آثار هيمنة المُتَخيَّل الغربي عن الشريعة، الذي وإن دَعمته الممارسات الوحشية لبَعض المتشدّدين الإسلامويين مؤخراً، يبقى مُتخيّلاً متحيّزاً، تَحكمه الأهواء أكثر من حكمة التاريخ. 

دلالات
المساهمون