أيام أُخرى في القدس

23 فبراير 2020
(من القدس المحتلة، تصوير: جويل كاريّيه)
+ الخط -

نستيقظ في المساء. الفندق يلفّه هدوء سابغ. لا نأمة. فقط أصوات السيارات تأتي من تحت. ننزل عند العامل. يشرح لنا وضعنا الجديد. انتهى شهر رمضان، بطقوسه ونظامه. الآن لا وجبة سحور. وثمّة وجبة فطور من السادسة والنصف إلى التاسعة والنصف صباحاً. من لا يأتي في هذا الوقت، لا فطور له. يكلّمنا العامل وكأنه يحذّرنا. أمّا المشاريب، فهي متاحة طيلة الوقت.

ننتبه لما يقوله، فهو يعني لنا الكثير. وإذا سهونا فسندفع الثمن. أمامنا شهران ونصف الشهر. فترة جدّ طويلة. وكلّ وجبة ستفوتنا ستكلّفنا ما لا يقل عن خمسين شيكلاً.

أدور في البهو. أتمشّى مع أخي. معظم النزلاء من النساء. تنزل بعضهنّ لغرض ما. لا نعرفهن. نفتقد أصدقاء الرحلة الأولى. أحسّ بوحشة وأنا أتذكّر أبا عماد وسمير والدكتور دحلان وأبا وحيد، وغيرهم وغيرهم، من الشباب النشميّين. علينا أن ننتظر، كي تكون لنا صداقات جديدة. هذا سيأخذ وقتاً بالتأكيد. وربما حتى لا يضبط، نظراً لقلّة عدد الرجال والشباب. لكن ما يُعزّي هو احتمال ورود شباب ورجال جُدد مع ظهيرة كل يوم.

يسألني أخي عن نجوان.

- كما أخبرتك ونحن في غزّة، فقد اتصل بي هناك، وأخبرني بسفرته للجزائر، أوائلَ هذا الشهر.

- نراه على خير إن شاء الله.

- آمين.

نجوان سيمكث شهراً في العاصمة الجزائرية. وبعدها سنراه يقيناً. سيزورنا هنا. يرتاح أخي لفحوى كلامي؛ فهو مثلي يحتاج لأصدقاء. وأصدقائي صاروا أصدقاءه. يتكلّم عنهم باحترام ومحبّة صافية.

أرى شبح الاستيحاش على تقاطيع وجهه.

- لا بأس. كلّها أيام ونصنع صداقات جديدة، تعوّضنا عن الصداقات الأولى.

- آمل ذلك. يغمغم بشجن.

ندور في البهو. نقف على الباب الخارجي. نُلقي نظرةً على الشارع، وسرعان ما ندخل.

العتمة تتكثّف. الليل ينزل بسدوله وصقيعه. صقيع كافر لا يرحم. صقيع جبال ينشر العظم نشراً. يقول أخي إنه في عز الشتاء، بين شهري 12 وواحد، تنخفض درجة الحرارة هنا إلى ما دون خمسة تحت الصفر.

- ياه... كأننا في أوروبا!

- بل أسوأ. فهم هناك مهيّؤون لهذا، بينما نحن غير مهيّئين.

أقول له: لقد جئنا بأثقل ملابسنا الشتوية، على خلاف سفرتنا الأولى. جيّد أننا أخذنا كل الاحتياطات.

يبتسم: لن تجدينا كثيرَ نفع. فدمنا دافئ ولا يحتمل صقيع القدس مهما لبسنا.

- لا عليك. ربما سنعود قبل يناير القادم. وبهذا لن نحضر الفترات القاسية من هذا الشتاء.

- يا رب.

نصعد الدرج، وسط صمت كئيب. نساء محجّبات يمررن ويلقين التحية. أعرف خواء الليلة الأولى في الفنادق. غير أنها ليست ليلتنا الأولى، فلمَ كل هذا الخواء؟
إلهي السرمدي!

...

نستيقظ رأد الضحى. أستحمّ، وأُفرّغ حقائبي في الخزانة. لدينا ثماني عبوات من الأنسولين، لا بدّ من إيداعها ثلاجة الفندق، لئلا تفسد. نضعها جانباً. ونرتّب عشرة كروزات سكاير رويال رخيصة، فوق الرفّ. ثم نعلّق ملابسنا وباقي حاجياتنا.

ننزل للبهو، حيث البوفيه المفتوح. لا نجد شيئاً. لقد نسينا كلام المسؤول! نخجل أن نسأل. ونخرج لمطعم شعبي قريب.

- مصيبة إن ظللنا ننسى!

نُحاسب ونخرج للمستشفى، كعادتنا، راجلين.

هناك، نقابل الدكتور، ويقرّر بدء الجلسات منذ الغد.

- كل يوم في حوالي الحادية عشرة.

نشكره ونخرج.

الوقت أمامنا فارغ وطويل. أقول لنفسي: لقد أخطأت حين لم آت بكتب. كيف سأصرف شهرين رهيبين؟

أفكّر في زيارة كشك دعنا، وابتياع كم كتاب.

لو كان نجوان هنا، لاستعرتُ منه ما يلزم.

- أيش أجندتك لليوم؟ يسألني أخي.

- لا شيء.

- يعني؟

- سنعود للفندق.

- كلّا. وماذا سأفعل هناك!

معه حق. ندور ونلفّ. ندخل حيّ الصوّانة السكني على منحدر. نتابع يوميات المقدسيّين العاديّين. ونستفسر عن أسعار بعض السلع، دونما شراء.

يتعب أخي، ونقفل راجعين.

في الفندق، يتسمّر أخي أمام شاشة التلفزيون بالطابق الأول. أُقضّي بعض الوقت معه، ثم أستأذن وأصعد.

الغرفة مرتّبة، وكل شيء في مكانه المناسب. أشعل سيكارة، ومن الشبّاك أراقب حركة الناس والسيّارات. أُفكّر: لو سمحوا لي بإدخال الحاسوب؟ لكنت أكتب الآن بعض الأشياء. ولكنهم يمنعون إدخال كل الأجهزة الكهربائية.

عن جَد: لا أستغني عن حاسوبي الشخصي. وما عدت بقادر على الكتابة بالورقة والقلم. إنها حقاً مشكلة، ومشكلة كبيرة لكاتب مثلي. فما العمل؟ استحالة أن أعود للورقة. فقد بُرمج عقلي على الكتابة المباشرة على الشاشة. ما العمل حقاً؟ لا أظن أنني قادر على تغيير عاداتي الجديدة - القديمة، فمنذ ستّ سنوات، وأنا أكتب على الحاسوب، سواء الشعر أو النثر، فاللعنة على رِقِّ التكنولوجيا!

كم نوعاً من الرق يعاني أمثالنا؟

خذ عندك منذ تفتح عينيك: رق الأنسولين. رق الفطور. رق السيكارة. رق الكمبيوتر. رق الإنترنت. رق التعب. رق الكتابة. رق عدمها. رق المرض. رق الوظيفة. رق الفراغ. رق العمل. رق التأمّل. رقّ الأرق. رق الأولاد. وفي آخر القائمة: رق التلفزيون. وتُستثنى بالطبع مسألة القراءة عن الورق، فهي، عندك، معانقة الحرية، بأبهى معاني الكلمة.

وما يعنيك الآن من كل هذا هو: رقّ الفراغ.

ما أصعب أن تعاني من الفراغ وأنت في فندق. لا النوم يُسعف، ولا الكتب في اليد.

أجاهد أن أغفو. أخي تأخّر في الصعود. والفندق خاوٍ. لا أسمع حتى الدبيب المكتوم لخطى النزلاء. ذلك الذي يمتصه الموكيت المفروش في الممرات.

أنتبه على الطرق الخفيف.

يدخل أخي، ونحاول بمشقّة توليد موضوع للحديث. حديث متقطّع تتخلّله فترات صمت ثقيلة... ثم، مثل كل ليلة مباركة، تحدث "المعجزة" إياها... ولا أستيقظ إلّا صباح اليوم التالي.

كم أنا مدين لكِ يا "معجزة النوم". فلولاكِ لتحوّلت حياتي إلى جحيم.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا، والنص حول تجربته في عام 2009

المساهمون