رانسيير وبيك: فيلسوف وشاعر في أخدود القصيدة

01 نوفمبر 2016
(جاك رانسيير)
+ الخط -

"أخدود القصيدة" هو آخر إصدارات الفيلسوف الفرنسي، جاك رانسيير (1940)، وفيه يقرأ نص/ مسيرة الشاعر فيليب بيك (1963). العمل الذي صدر في مارس/آذار 2016، هو امتداد سنوات من الحوار بين هذين "المعلّمين" في الفلسفة والشعر وجماليات الكتابة من القرن السادس عشر إلى يومنا هذا.

حوارٌ على الطريقة السقراطية؛ لكن بشكل طازج، حيث الخطاب يصير مبنياً للمجهول. من يخاطب من؟ أين مكانة رانسيير في الكتاب؟ وأين صوت بيك؟

"الأخدود"، هنا، كتاب يفكّر في موسيقى القصيدة التي تسكن نصوص بيك. يتقصّى أيضاً، ذلك الشعر الذي يطلّ من نافذة شليغل وشيلر وهيغل، من خلال بيك الذي يجمع بين النبرة الفلسفية والتنظير لشعرية مقبلة ومعقدة.

يحذّر رانسيير قارئه، في بداية الكتاب، أنه لن يجد هنا نظرية عامة للشعر من الممكن تطبيقها على شاعر خاص. ثم يقول: "كلمة شعر بالنسبة إلى تشير إلى مفصلٍ بين ممارسة ما للسان وهيئة الفكر. يتعلّق الأمر دائماً بالحوار على طريقة آخر موضة يونانية: أعني طريق أوبراديكية تنتهي في جبة أفلاطون أو سقراط من أجل الحوار العارف".

الكتاب هو امتداد لمحاورات "ملتقى سُريزي" في أغسطس/آب 2013، حيث كان رانسيير حاضراً لنقاش فيليب بيك في شعريته المتفردة. إننا إزاء عقلين؛ واحد ينظر من الشعر إلى الفلسفة والآخر من الاتجاه المعاكس.

حسب رانسيير، فإن بيك لا يكتب الشعر كحلاق يمارس الحلاقة؛ بل إنه من صنّف الشعراء الذين يضعون صنيعهم كإنجاز لماهية الشعر، حيث يتحمّل حالة الشاعر، ثم يتحمّل أيضاً، مشروعاً شعرياً متعلّقاً بالوعي وبمهمة الشعر الذي ينجزه، فالشاعر - بحسب رانسيير - استطاع بتفرّد وذكاء أن يعيد كتابة إرث ثقافي ضارب في عمق التاريخ الشعري والفلسفي.

نقرأ أيضاً، أن ما يقوله بيك، إن الشعر مسألة مضخّةٍ، ومسبكٍ، وآلة بخار، ومنشف غسالة وأدوات أخرى نثرية. ومن هنا سيبدأ الفيلسوف حفره في قصائد بيك حتى تنبلج من كوة ما فكرة "نثر العالم". المسألة تزداد عمقاً، لأن الشعر، مهما حصل، يتخلله النثر. لكن، ليس أي نثر، فلهذا الأخير حيّز أساسي في مهمّة بيك الشعرية، لذلك وجب التمحيص للقبض على شيء ما. لأن سؤال النثر، وفقاً لرانسيير يتموقع في الانزياح الموجود بين النثر كنمط للكلام، والنثر الذي ندركه كصنف إعلائي للحقبة وفيها.

إنها كوريغرافية القصيدة عند فيليب بيك، وفيها "النثر جائز، غير أنه غير موجود من جهة أخرى" كما أن "النثر غير جائز، غير أنه موجود من جهة أخرى". وأمام هكذا استنتجات، يتزلّج القارئ فوق نثر الكتاب الفكري.

ونحن نتقدم في القراءة، يتبين أن الحوار هو مركز مآل الكتاب وهدفه الرئيسي. من هنا، نضع العين على كتابة فيليب بيك الشعرية. خصوصا في مجموعته "ترتيلات شعبية". حيث اشتغل على حكايات الأخوين الألمانيين "غريم" (le frères Grimm). أعاد كتابة الحكاية ليذوبها في مساره المقذوف. أي أنه أعاد، وبكثير من الجرأة، تدوير نصوص حكايات نثرية وتحويلها إلى أبيات شعرية معاصرة.

علاقته بالأدب الجرماني عميقة ودقيقة جداً. لذلك يؤكد رانسيير على هذه المرجعيات في نصوص فيليب بيك: نوفاليس، شليغل وآخرين. إنه اشتغال حقيقي على رقعة الذاكرة الشعرية. مساحة ترتيل موضوعي.

كيف إذن يتم التفكير في هذا الأخدود الموسيقي للقصيدة حيث الذهاب والإياب يقلبان مادة اللغة المألوفة وينعشان كلمات أناشيد قديمة/أثرية؟ سؤال يطرحه الفيلسوف في محاورته مع الشاعر. هذا الأخير، وبعناد، يعيد كتابة قصائد الماضي ويحولها، ينعش الأجناس الخامدة، يبهرج نثر الحكايات الشعبية بل حتى التعليقات على القصائد. يوقظ في نفس الوقت استفسارات الذين حاولوا ممارسة شعر الما-بعد وتفكيره أيضا بين زمن شيلر وهيغل.

"أخدود القصيدة" كتاب حوار بامتياز. الشاعر والفيلسوف يحرثان معا تربة بأسمدة ندية. كتاب "ديداكتيكي" مفتوح على قصيدة أفقية وكأنه امتداد لكتاب "النشيد الموضوعي"، الذي صدر سنة 2014 بعد اللقاء/الحوار الذي دار في فضاء سوريزي colloque de Cerisy. حيث أشباح ملارميه وتسيلان ونيتشه وآخرين. نتذكر هذا الكتاب لأن جاك رانسيير كان حاضرا فيه وساهم في الحوار الفلسفي حول أعمال فيليب بيك، بحيث يبدو "النشيد الموضوعي" مرجعاً لأخدود القصيدة.

المساهمون