لن تسمع وقع خطواتهم

23 يونيو 2016
("بكاء قمري نيوني" لـ فرنسوا مورلي)
+ الخط -

1
سريرٌ ذو شراشف بيضاء ونظيفة في غرفة جميلة، كغرف الفنادق الفاخرة، غير أنها بنافذة تُطلّ على حديقة (نوافذ الفنادق لم تعُد تطلّ على شيء). من النافذة تطلّ سنديانةٌ قديمة بدأ الخريف ينتف أوراقها ورقةً ورقةً. على الشجرة يحطُّ عصفور صغيرٌ يشدو لحناً شجيّاً ثمّ يمضي. في السرير المجاور عجوزٌ ببيجاما زرقاء يضعُ على الطاولة كتاباً فرغ للتوّ من قراءته، يتّكئ على عكّازه ويقوم ببطء، يدعوك إلى الخروج معه، من أجل نصف ساعة المشي اليومية.

يقول الأطبّاء إن لا دواء يعدل المشيء لمن هم في مثل ووضعه.. ووضعك.

البارحة، اعتقدتَ أنه كان آخر يوم من أيام سنواته السبعين. على غير العادة، لم تسمعه يتقلّب في سريره، لم تسمع له شخيراً أو سعالاً. لبثتَ في فراشك للحظاتٍ وأنت تصيخُ السمع.. كان الظلامُ مطبقاً والصمتُ كذلك. لا شيء يبلغ أذنيك إلّا أنفاسُك أنت، ودقّاتُ قلبك أنت.

أين أنفاسه؟

تساءلتَ، وقد أجزمت أن جثّةً باردةً تنام، الآن، غير بعيد عنك، ثمّ قمت، وقفت بجانبه. ومن دون أن تقترب منه كثيراً، رحتَ تراقبه، منتظراً حركةً صغيرةً منه تؤكّد أنه لا يزال موجوداً. لم يكُن صدرهُ يعلو وينخفض. الحقيقة أنه كان مستلقياً على جنبه الأيمن، ما عقّد من مهمّتك. وحين رحتَ تستحضر، بصعوبة، بعض الصلوات المناسبة لهكذا موقف، انقلب على جنبه الأيسر.

تعتذر عن الخروج معه؛ فمن هناك، في الرواق، يأتيك وقعُ أقدامهم. تستطيعُ أن تتعرّف عليهم واحداً واحداً من خلال وقع خطواتهم.

المرضُ والمستشفى تجربتان مريعتان. لكن، إن صحَّ أن نقول إن فيهما ميزةً رائعة فهي كلّ هؤلاء.

الذين لا يكلّون من الاتصال بك كلّ ساعة للاطمئنان عليك.

الذين يتركون كلّ شيء من أجلك.

الذين يقطعون مسافات بعيدة ويأتون لرؤيتك.

الذين تسمع، الآن، وقع خطواتهم في الرواق.

الذين سيدخلون بعد ثوانٍ ويملؤون غرفتك ضجيجاً وبهجةً.


2
السبيطار* !

طالما كانت لديك صورتان عنه. صورتان متناقضتان؛ تنتمي كلٌّ منهما إلى مدرسة فنّية مختلفة: الأولى رومانسية. يُشبه الأمر أجواء ذلك المستشفى الباريسي الذي كتبت عنه صديقةٌ شاعرة تصف الأيام الأخيرة لوالدها فيه، وعلاقتها به. الصورة الثانية كنتَ تراها بأم عينيك، في قسم الاستعجالات تحديداً، والتي أعرف أنك زرته كثيراً، لكنني لا أعرف بصفتك ماذا، إذ لم تكن مريضاً حتماً، وطالما صلّيت كي لا تجد نفسك، يوماً ما، هناك.

هناك صورةٌ تعبّر عن الوضع بشكل دقيق: غرفةٌ صغيرةٌ في مستشفى ما مكدّسة بالحوامل. في الغرفة ستّة أسرّة وعشرون امرأة. تتقاسم كلّ اثنتين سريراً، بينما توزّعت البقية على الأرضية، مكتفياتٍ بأفرشة نحيفة. قابلتكَ الصورة أكثر من مرّة على مواقع التواصل الاجتماعي، وشاهدتها على أكثر من جريدة؛ فقد أصبحت الصورةَ المفضّلة لإرفاقها مع أي موضوع عن واقع المستشفيات. كنتَ شاهداً لحظة التقاطها، وصاحبها المجهول هو س الذي كان يعمل معك مصوّراً في الصحيفة نفسها، قبل ثماني سنوات. التقطها خلال تحقيق قمت به عن واقع الصحّة في البلاد.

تُرى أين هو س الآن؟

هل كان مصوّراً مبدعاً، أم كان محظوظاً؟ ثمّة صورة أخرى لو نُشرت في زمن ازدهار فيسبوك لنالت حظاّ أوفر من الانتشار. التقطها حين كنتَ تقوم بريبورتاج عن واقع التعليم في قرى جبلية بعيدة. الصورة لفتاة صغيرة في السابعة أو الثامنة من عمرها، مع أطفال آخرين، وهم عائدون - مشياً - من المدرسة التي تبعد عن بيوتهم بضعة كيلومترات. كان الجوُّ شتوياً والطريق موحلة، وكان نعلاها المطاطيّان ينغرسان في الوحل وتقتلعها بصعوبة، قبل أن تنزعهما وتحملهما بيديها، وتكمل الدرب حافيةً.

ما زلتَ تذكر ملامحها جيّداً. كانت صغيرة وجميلةً وبريئة.

طلبتَها منه ذات مرّة حين التقيت به في "دار الصحافة"، ووعدك بإرسالها على بريد الإلكتروني، تاركاً لك رقمه. لكنك لم تتّصل به. عليك أن تتّصل به في أقرب فرصة.


3
كنتَ تعرف، مسبقاً، أنه لو قُدّر لك المجيء إلى هذا المكان، فلن تحظى بسرير ذي شراشف نظيفة في غرفة جميلة بنافذة تُطلّ على حديقة فيها سنديانة قديمة يحطُّ عليها عصفور ليشدو لحناً شجيّاً ثمّ يمضي.. وأنك لن تسمع وقع أقدامهم قادمةً من الرواق؛ لأنك تعرف أن لا أحد سيزورك. لا أحد سيسأل عنك، عدا مسؤوليك في العمل. وحدهم يُقلقهم غيابُك، وينتظرون عودتك سريعاً.

* المستشفى

دلالات
المساهمون