حسنين باشا..في الصحراء الليبية بدعم من الملك فؤاد الأول

26 أكتوبر 2019
طوارق في الصحراء الليبية (Getty)
+ الخط -

تقدم رحلة الرحالة المصري أحمد محمد حسنين باشا، مادة ثرية ومتنوعة، وهي علاوة على كون صاحبها رشيق الأسلوب وممتعه، فإن الرحلة في حد ذاتها فريدة من نوعها، تبين شجاعة هذا الرجل الذي درس في أوائل القرن الماضي في أكسفورد ورافق الملك فاروق، واشتغل مدير ديوانه، وعلى تنوع معارفه، وحس المجازفة والمغامرة والإقدام الذي كان يتمتع به، وربما هذا راجع في جانب إلى تربيته، وفي جانب آخر، إلى ولعه برياضة المبارزة، التي كان بطلا فيها، وحاز بطولات كثيرة فيها في إنكلترا وغيرها.

يقول عن دوافع رحلته التي قام بها برفقة روزيتا نوريس وهي سيدة إنكليزية وتمكن من اكتشاف واحتي العوينات وأركنو - كان لم يتم اكتشافهما من قبل - وتم منحه الميدالية الذهبية من الجمعية الجغرافية العالمية للاكتشافات ومنحته الجمعية البريطانية لقب رحالة عظيم،

"هذه قصة رحلة قمت بها سنة 1923 من السلوك على شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى الأبيض عاصمة مديرية كردفان بالسودان، وهي مسافة قدرها نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة كيلومتر قطعت على ظهور الإبل، وقد وفِّقت فيها إلى العثور على واحتين مجهولتين هما أركنو والعوينات، وكانتا غير معروفتين قبل ذلك للجغرافيين.

وقد كانت الغاية الأولى من رحلتي هذه علمية، ولكني حاولت في هذا الكتاب أن أتجنب إرهاق القارئ بذكر المصطلحات الفنية، وأن أقدم إليه حكاية أرجو أن تكون شائقة حتى لمن يجهل مصر والسودان وصحراء ليبيا.

كان أكبر همي طول أيام حياتي، أن أجوب صحراء ليبيا وأصل إلى الكفرة، وهي مجموعة من الواحات في صحراء ليبيا لم يزرها قبلي إلا مستكشف واحد، فقد نجح المستكشف الألماني المقدام رولفس سنة 1879 في القيام بهذه الرحلة، ولكنه لم يخرج منها إلا بحياته، بعد أن خسر جل مدوناته ونتائج ملاحظاته العلمية".

من هنا نستشف الصعوبة التي كان يستشعرها أحمد حسنين باشا، وهو يقدم على مغامرته تلك. وزيادة على ما قد يشكله اقتحام هذا المجال الصحراوي البكر على حياته، فإن القيام برحلة منظمة وحسب التحضيرات والإمكانيات "العلمية" للرحلة، كان لا بد من توفر المال، وقد ضمن له الملك فؤاد الأول ذلك، بأن منحه تفرغا من العمل ووفر له كل ما يحتاجه.

وهكذا بدأ حسنين باشا مغامرته، التي يقدمها في هذا الكتاب، دون أن يكشف إلا عن القليل من الحصيلة العلمية، والتي ولا شك قدمها إلى السلطات المصرية فور عودته، على شكل مخابر علمية وخرائط وصور ولقى أثرية ومواد تفيد في دراسة هذه المنطقة من الصحراء الليبية المتاخمة للحدود المصرية، والتي كانت دائما مصدر قلق بالنسبة لأي حاكم مصري، باعتبار تلك الحدود الشاسعة.

يقول "وفي سنة 1922 تشرفت بعرض خطة رحلتي مخترقًا الصحراء، من البحر الأبيض المتوسط إلى السودان، على حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول، الذي كان قد تفضل فأبدى اهتماما برحلتي الأولى، ومنحني نوط الجدارة فأظهر عناية شديدة بفكرتي، وسمح بإعطائي إجازة طويلة، وتفضل بإصدار أمره إلى الخزينة المصرية بمنحي جميع النفقات التي تتطلبها هذه الرحلة، فلجلالته مني تقدير العبد المخلص، الذي يجهر بأن كل ما وفِّق إليه من النجاح في هذه الرحلة، راجع إلى معونة جلالته الثمينة".

وهنا، يحاول حسنين باشا أن يقنعنا بأهمية رحلته على غرار البعثات الاستكشافية التي كان يقوم بها الأوروبيون، مبتعثين من سلطات بلادهم، لأغراض علمية وأخرى استخبارية. فهل أنجز حسنين باشا كل ذلك؟ لا نعرف شيئا كثيرا عن هذا الأمر وأهميته، عدا احتفال الإنكليز به وتكريمه. والحاصل أنه توفي في سنة 1947، وبالضبط قبيل سنوات قليلة من ثورة الضباط الأحرار سنة 1952، التي قلبت وجه السلطة في مصر.

ونجد أحمد لطفي السيد، مدير الجامعة المصرية في تقديمه لهذه الرحلة يشيد بنتائجها العلمية والبحثية، ويورد آراء أوروبيين فيها، يقول "وفي خلاصة هذه التحاليل يقول الدكتور بول: "ربما يسمح لي أن ألفت النظر إلى أن رحلة أحمد بك حسنين، كما يظهر لي، هي فوز يكاد يكون فريدا في تاريخ الاستكشاف الجغرافي" وجاءنا أيضا بنماذج جيولوجية قال فيها الدكتور هيوم مدير قسم الجيولوجية المصرية: "إن أحمد حسنين بك قد حصل برحلته على مجموعة ثمينة من النماذج الجيولوجية والصور الفوتوغرافية، تجعل من السهل على من خبروا جيولوجية الصحاري المصرية خبرة عملية أن يصلوا إلى نتائج صحيحة عن التركيب الجيولوجي للمنطقة التي اخترقها".

ويضيف أحمد لطفي السيد "كتاب رحالتنا حسنين بك على ما فيه من الحقائق العلمية ملحة أدبية، لم يكن رحالتنا مشهورا قبل الآن بالتفوق في الكتابة، كما اشتهر بالتفوق في العلم، وفي وسائل الشجاعة والرياضات، ولكنه لما تهيأ له ظرف الكتابة والوصف سما إلى ألطف المعاني وترتيبها، وحسن الذوق في إيراد الحوادث، والتبسط في عرضها، إلى حد يصح اعتباره نموذجا كتابيّا، أتراه، كما يظهر لي، قد ترك التعمل ناحية ولم يزد على أن رسم بقلمه صورة ساذجة للمعاني التي أثرت في نفسه أثرا عميقًا؟ يظهر لي أن لطف الحس في هذا المقام له أثره العظيم في رشاقة التعابير وجاذبية القصص".

من أمتع الفصول في رحلة أحمد محمد حسنين فصل "زوابع الرمال في طريق جالو، والصعوبات التي لقيتها قافلته، يقول " تركت الجغبوب في يوم من خير الأيام التي جرت عادة البدو أن يتفاءلوا بها. كان ذلك يوما عاصفا تسفي فيه الريح الرمال، والعرب يقولون: إن القافلة التي تبدأ رحلة في عاصفة يكون نصيبها التوفيق وتصيب حظا طيبًا.

وأكبر ظني أن العرب ابتدعوا هذه الفكرة قديما للرضا بما هم واقعون فيه كل يوم، والنزول على ما تضطرهم إليه طبيعة الصحراء، وإلا فإن البدوي في هذا يكون كالمصري أو السوداني إذا قال: إن السفر محبوب في يوم مشمس، أو الإيقوسي إذا تمنى اليوم الممطر لسفره؛ إذ زوابع الرمال في الصحراء أمر عادي قد يلقاه مجتازها، في أي مكان وآونة، على أنها تجربة شاقة ومحنة قاسية يعاني الإنسان هولا شديدا في احتمالها".


وجه الصحراء

يصف حسنين باشا جو الصحراء وصفا دقيقا، وجميلا، يقول "يُصبح والسماء صافية والجو خال مما يُنذر بعاصفة أو يُشعر بريح، وتبسم الصحراء لنا ونحن نهم بالرحيل، فتتحرك القافلة فرحة مبتهجة وتسري فرحة طروبة، وما هو إلا قليل زمن حتى يهب نسيم بليل، لا يُعرف مأتاه يمضي همسا فوق الرمال، ثم يشتد دون أن نشعر بذلك، وإلى هذا الحد لا نلقى من هبوبه ما يضايقنا.

ثم ينظر الإنسان إلى وجه الصحراء فإذا سطح الأرض قد تغير تغيرا غريبا، وإذا ذرات الرمال ترتفع قليلا، وتنبجس وتدور كأنها بخار يتصاعد من ثقوب لا عد لها، في أنابيب مدت تحت ذلك السطح، وتزيد ثورة الرمال شيئًا فشيئًا كلما ازدادت الريح قوة، حتى يُخيَّل للإنسان أن سطح الصحراء كله يرتفع إطاعة لقوة دافعة رافعة تحته.
ويتطاير الحصى ويتناثر فيصيب قصب الأرجل والركب والأفخاذ، ويتصاعد رشاش حبات الرمال الراقصة على الأجسام، حتى يلطم الوجه ويدوم فوق الرؤوس.

ثم تغيم السماء فلا يرى البصر إلا أشباح الجمال القريبة منه وتثور الطبيعة، فكأن في الجو قوى خفية تصيب العذاب لطما وقذفًا ولدغا".


نصائح للعابر

يكشف حسنين باشا عن خبرته التي راكمها في رحلته، وهو يقدم للرحالة المقبلين الطرق الكفيلة بتجنب متاعب العواصف الرملية في الصحارى، يكتب "وخير لَمن تدهمه الزوبعة أن تهب الريح من ورائه؛ لأن لطم الرمال وجهه عذاب أليم، وفوق هذا، فليس في وسعه أن يبقى مفتوح العينين، ولا هو يجسر أن يغمضهما، فلئن كان لدغ حبات الرمال شرا وبلاءً ففقد الطريق شر أعظم وبلاء كبير".

ولحسن الحظ أن الريح تهب في عصفات متلاحقة تتراوح بين الثلاث والأربع، وتعقب كل طائفة منها ثوان قليلة، تسكن فيها الريح فتريح النفوس؛ ذلك أن الإنسان عند عصفها يدير وجهه ويتقي الرمال بطرف «كوفيته»، ويكاد يمسك عن التنفس حتى تجيء فترة السكون، فيكشف عن وجهه ويلقي نظرة سريعة يتبين الطريق ويعجل بالتأهب للهبَّة الثانية.

وكأن هنالك شيطانًا هائلا عاتيًا ينفخ تلك العصفات، والهبات الداوية في الرمال فيسفيها فوق رؤوس المسافرين ويدوي في الفضاء صوت يصم الآذان، وكأن هذا الصوت من يد ذلك الشيطان، تضرب بأصابع قوية خشنة، ضربات متناسقة على أوتار مشدودة من الحرير.

متى بدأت زوبعة الرمال لم يكن للمسافر إلا أن يندفع في سيره غير وان؛ فإن الرمال إذا أصابت شيئًا ثابتا سواء أكان ذلك الشيء عمودا أم جملا ً أم رجلا تكدست حوله حتى تصبح ركاما، وهكذا إذا كان في السير عذاب وأهوال، ففي الوقوف الموت الزؤام.

وقد تظل زوبعة الرمال على أشدها خمس أو ست ساعات، وليس في ميسور القافلة أن تتابع التقدم حينئذ إلا مع الحرص الشديد على تبني الطريق حتى لا تخطئه".


الإبل أكثر فهماً للعاصفة

يبسط حسنين باشا المزيد من ملاحظاته، التي راكمها في رحلته تلك، وتخص المجال الحيوي الذي تتحرك فيه، حيث الإبل أيضا تفهم لغة الصحراء وتتنبأ بالعواصف وتعرف كيف تتعامل معها. يكتب عن ذلك الملاحظات التالية: "إذا تمردت العاصفة واشتدت، فإن الإبل تكاد لا تتقدم، ولكن غريزتها تجعلها تتوقع الموت إذا وقفت في السير، ويتجلى ذكاؤها الغريزي فيها عندما يبدأ نزول المطر؛ إذ لا تحس خطرا فتقف بغتة أو ترقد.

وتدفع العاصفة ذرات الرمل فتخترق كل شيء يحمله الإنسان، تملأ ثيابه وطعامه، تملأ حوائجه وآلاته العلمية، تبحث عن موضع الضعف فيما يذروها فتنفذ إليه منه حتى يحس بها ويتنفسها ويأكلها ويشربها، وربما نفذت ذرات الرمال الدقيقة في مسام جلده فآذته كثيرا.

ويعرف البدوي خصائص هذه العواصف، فيحيط بها علما كل غريب عن الصحراء، يقول البدوي: إن الريح التي تنذر بالعاصفة تهب مع النهار أو تقر مع غروب الشمس، ولا تقوم العاصفة في ليلة مقمرة ولا تثور بين العصر والمساء، ولكن كل هذه القواعد الطيبة اختلَّت في رحلتنا إلى جالو؛ فقد ثارت العواصف والقمر مشرق، وثارت والليل بهيم، وأصابتنا زوابع بدأت قبل الفجر وأخرى ظلت إلى ما بعد الغروب بزمن طويل، ودهتنا عواصف جمعت بين العصر والمغرب حتى ما أحسسنا لضوء النهار بين هذين فارقًا.

واختلفت أنواع العواصف التي أصابتنا، فكان منها الضعيف والقوي، والقصير الأمد والطويل الهبوب، والثائر بالنهار والقائم بالليل.
هذا حال الصحراء في شدتها وقسوتها، في غضبها وثورتها، على أنها لا تلبث أن تكشف لنا عن وجهها الجميل، وتطلع علينا بصحيفة جديدة من صحف سحرها، فقد يحدث في المساء أن نكون في صراع هائل مع كتائب الرمال السافية، فتسكن الريح فجأة، كأنها أمرت فامتثلت، ثم تقر حبات الرمل الدقيقة، كأنها ضباب يستقر، ويُشرق القمر فتأخذ الصحراء شكلا جديدا تحت ضوئه السحري الباهت الذي يغمر نواحيها ...

أكانت هناك منذ هنيهة زوبعة ثائرة كادت تودي بحياة القافلة؟ من يستطيع أن يذكر ذلك؟ هل يُعقَل أن هذا الفضاء الهادئ البديع كان قاسيًا قط؟! من يستطيع أن يُصدق هذا؟!

وهكذا لم تكن رحلتنا إلى جالو بالسهلة؛ فقد كانت زوابع الرمال تضايقنا باستمرار، وبلغت في بعض الأحايين حد الخطر، وكان الشق الثاني من الطريق مملوءًا بغرود من الرمل اضطرت القافلة إلى تجنبها بالسير حولها، مع ما في هذا التعرج من إجهاد للفكر ومشقة كبرى في تتبع البوصلة.

وقد زاد هذا الواجب من جراء ثورة الزوابع، وسفيها الرمال في أبصار رجال القافلة ورغما من هذا تابعنا السير مجدين.
وكان لنا ساعات لهو وسرور أثناء هذه المرحلة، رغم ما لاقينا من أذى الرمال؛ فإن الذاكرة لا تنسى الليالي البهيجة، التي كنا نجتمع فيها حول نار الحطب نتناول كؤوس الشاي بعد العشاء، فيبدأ الحديث رفيقنا مغيِّب الشيخ الكبير وألسنة النيران الراقصة تنعكس على لحيته الشعثاء التي وخطها الشيب، ويقص علينا فصولا من تاريخ قبيلة زوي، أيام كان جده يقصد واداي لمحاربة قبائل السود ويغنم الجمال والعبيد.

ويتبعه الرفيق صالح فيطرفنا بأخبار الربح الطائل الذي جناه ابن عمه حين سافر سفرته الأخيرة إلى واداي، فلم يحارب أحدا، وإنما جاء منها بالجلود وريش النعام والعاج وباع كل ذلك في أسواق برقة.
وكانت تميل نفسي إلى سماع أغنية من أغاني العرب فأطلب ذلك من عليٍّ، وكان شاعرا أو خطيبًا لأخت حسين الذي تنم صباحة وجهه عن جمال أخته.

وهنا تتجه أنظار عليٍّ إلى عمه مغيب كأنما يسأله أن يأذن له إجابة طلبي، وهو مشغول عنا بسبحته متعمدا عدم الالتفات إلى مجرى الأمور الجديد؛ لأن الشيخ البدوي لا يليق لوقاره أن يستمع أغاني الحب من صغار الشبان، ولكن احترامه لي يدعوه إلى الرضا بذلك وعدم ترك المجلس، فيقول لعلي بصوت خافت: "غنّ للبيك ما دام يحب أغاني البدو" فيبدأ علي الغناء بصوته الرخيم الذي تحمله أجنحة نسيم الليل البليل، بينما تتهالك حبات سبحة مغيب بين أصابعه منتظمة متوافقة كأنما لا يشغله شاغل عن الانقطاع لأداء فروض تعبده.

دلالات
المساهمون