الحرية للجميع.. قوس قزح الهند

19 ابريل 2016
قطار يغادر إحدى ضواحي نيودلهي (تصوير: موني شارما)
+ الخط -

عشية سفري إلى دلهي، باشرتُ ببحث سريع على الإنترنت للاطلاع على أي تحذيرات موجّهة إلى المسافرين إلى الهند. في بالي مخاطر صحية فقط، وأمصال عليّ تلقيها قبل الانطلاق في رحلتي.

التحذيرات الوحيدة التي سرعان ما تطفو، تتعلّق بقضية الاعتداءات الجنسية على النساء ونصائح إلى المسافرات حول سُبُل تجنّبها. وتتكرر الإشارة خلالها إلى حادثة مقتل الطالبة في كلية الطب عام 2012، بعد تعرضها للاعتداء والاغتصاب الجماعي.

عقب قراءتي لتلك التحذيرات، ورغم وعيي الكامل بمبالغات الإعلام، وقدرته على اختزال تعددية مجتمع ما وغناه بصور نمطية محدودة، تأسرني خشية من احتمال التحرّش بي، اغتصابي حتى قتلي.

لكنني أسارع في الحال إلى رفض هذا الخوف، ثم تجاهله، وأخيراً أشْكَلته. مع ذلك، وبالرغم من دفعي به بعيداً عني قدر المستطاع، يبقى هذا الخوف يتردّد في نفسي خلال الأيام التي سبقت رحلتي.

حين أصعد الطائرة المقلعة إلى نيودلهي أخيراً، ألتقط وأنا في طريقي نحو مقعدي، جميع الصحف الموضوعة في متناول يد المسافرين. أستهل قراءتي بتقليب الصحف الأوروبية والأميركية؛ جميعها، بشكل أو بآخر، تعيد سرد الأخبار ذاتها من حول العالم، بما في ذلك البلدان التي تصدر فيها.

أنتقل إلى اثنتين من الصحف الهندية، وقبل أن أباشر بقراءتهما، أميل نحو المسافر الجالس قربي والذي سمعته يتحدث في وقت سابق الهندية، ثم أسأله، حاملة الصحيفتين في كلتا يدي، إن كان توجههما السياسي نحو اليمين أم نحو اليسار.

يجيب جاري بأن الأمر يعتمد على كتّاب المقالات أنفسهم، إذ إن كل واحد من بينهم يعبِّر عن موقف مغاير، فأعيد سؤالي نفسه، هذه المرة ببطء أشد وبإسهاب، مفترضة أن جاري لم يفهم ما عنيته بهذه النظرية السياسية المعقّدة: اليسار واليمين. فأتلقّى منه الرد ذاته، هذه المرة ببطء أشد وبإسهاب.

فاقدة الأمل تماماً منه، أبدأ بمهمة قراءتي. أمرّ على خبر عن المظاهرات الطلابية في جامعة "جواهر لال نهرو" في نيودلهي، ترافقه صورة لفتاة تشير المعلومات إلى أنها للطالبة شهلة رشيد شورا، إحدى القيادِيّات في مجلس الطلبة.

يلي هذا الخبر مقالة تنتقد تخصيص 3% من مساحة أراضي المدينة لـ 1% من سكان المدينة الأثرياء، فيما نفس المساحة تشغلها الأحياء الفقيرة التي يسكنها 30% من سكان نيودلهي.

ثمة مقالة أخرى حول تلوث البحيرات وموت مئات الأسماك فيها، ونداء الجمعيات المختصة بالبيئة للسلطات للتدخل الفوري لإنقاذها. كذلك أقرأ الإعلانات الملوّنة التي أخذت قدراً كبيراً من مساحات الصفحات.

أولّها إعلان وضعه رجل مسنّ احتفالاً بمرور خمسة وأربعين عاماً على زواجه من زوجته التي توفيت العام الماضي، ثم آخر وضعته الدولة ويحتوي على صور شخصية عديدة لأطفال ونساء ورجال مِمّن فُصِلوا قصراً عن ذويهم، وينشدون العودة إليهم.

أخيراً أصل إلى مقالة حول فتاة قفزت من شرفة شقة في الطابق الثالث للفرار من شرك نصبه لها صاحبها وأصدقاؤه بهدف اغتصابها.

في نهاية المطاف، أدرك قدرة كل مقالة في هاتين الصحيفتين الهنديتين في كشف النقاب عن عالم من التعددية، كنت قد نسيت منذ وقت طويل احتمال وجوده. إذن لم تنفد هاتان الصحيفتان من قوس قزح السياسي ذي اللونين -اليسار واليمين- فقط، بل نفدتا من أحادية الثقافة التي يمكن للمرء أن يجدها في الصحف الغربية الرئيسية أيضاً. أما حلولي على نيودلهي فسيكشف بدرجة أكبر، محدودية الخيال الناجمة عن مراقبة أجزاء من العالم ومعرفتها عن بُعْد.

في جامعة جواهر لال نهرو، تقودني مجموعة من الطلبة، من بينهم سُكريتا لاهيري التي تعد أطروحة الدكتوراة حول القومية والنسوية في فلسطين، إلى محاضرة/ مظاهرة ذلك اليوم، والتي هي جزء من سلسلة محاضرات يومية تجري خارج قاعات الدراسة، في الهواء الطلق، وبادر إلى ترتيبها طلاب ومحاضرون في الجامعة لمناقشة قضايا وأسئلة ملحّة يواجهها المجتمع الهندي في الوقت الحالي.

في طريقنا إلى المحاضرة، نمر بمباني الكليات المختلفة، التي تحمل العديد من جدرانها كتابات ورسومات تقدِّم حقائق وإحصائيات حول العالم الذي نحيا فيه اليوم، كما تحاور المرء حول الحريات الدينية، وحول حقوق النساء وحقوق المثليين، وتُمَشْكِل التقسيمات الطائفية والطبقية، وتُسائل فقر الأغلبية وغنى الأقلية، وترفض النظام النيوليبرالي وسيطرته على الأنظمة الديمقراطية كما هو الحال في الهند.

تجري المحاضرة/ المظاهرة على درج أحد مباني الجامعة، الذي اجتمع فوقه مئات الطلاب الشباب، فيما اقتعد العشرات الأرض، محيطين بالمحاضر، الذي يناقش مفهوم القومية وجذوره في الفكر الأوروبي الحديث، متسائلاً إن كان كنموذج، يناسب المجتمع الهندي بتشكيلته التي تنعكس في مجموعات وجماعات عديدة مختلفة.

في الأشهر الماضية، عادت مثل هذه الأسئلة تشغل بال طلاب الجامعة وأساتذتها على حد سواء، حينما راحوا يشهدون محاولات الحكومة الهندية الحالية فرض هوية قومية أحادية على المجتمع الهندي، ألا وهي الهندوسية.

وهذه المحاولات، كما يوضح المختص الاقتصادي الأستاذ المتقاعد من جامعة "جواهر لال نهرو"، برابات باتنايك، تنسجم مع تبنّي الحكومات الهندية الأخيرة برنامجاً نيوليبرالياً يقوم على فتح السوق لاستثمارات الشركات العالمية وإلى خصخصة الممتلكات العامة، واستغلال الأيدي العاملة الرخيصة في الهند، وهو أمر أدّى إلى صعود طبقة متوسطة جديدة، جلّها من الهندوس.

في الآن ذاته، تخلّت هذه الحكومات عن محاولات العمل على إحلال المساواة بين أفراد المجتمع، مخصِّصة بذلك قليل من الاهتمام بأي شخص لا يعتبر ناجعاً في خدمة السوق، إما في إنتاج بضائعه أو في استهلاكها.

بهذا نتج التحالف بين مبدأ النيولبرالية والحركات القومية اليمينية الهندوسية، مجهضاً الدعم لمختلف فئات المجتمع المضطّهَدة، والذي اتسمت به طموحات الهند السابقة المناهضة للاستعمار، متمثلة في مبدأ غاندي المعروف باسم "سارفودايا"، والذي حاولت الحكومات السابقة اتِّباعه.

سُكريتا، التي لا تزال تقف على مقربة مني بابتسامتها المشرقة، تعرِّفني إلى أحد قيادات الحركة الطلابية. راما ناجا، طالب شاب شديد التواضع والرقة، يبدو بهشاشة أوراق الشجر، ينتمي إلى إحدى أكبر المجموعات المضطهَدة في الهند التي أشار إليها بتنايك.

هو حسب النظام الطبقي، يعتبر من فئة المبوذين أو الـ"داليت"، الذين تم تصنيفهم كأدنى الطبقات، ويُعرفون باسم "محظوري اللمس" أيضاً، لا يُسمح لهم بلمس الآخرين من غير الداليت، أو أن يُلْمَسوا من قبلهم. عملية الاضطهاد المنظّم للعديد من الهنود، على صعيد الدراسة، وفرص العمل، والإقصاء المجتمعي جراء فرزهم كتابعين لأدنى الطبقات، هي قضية مركزية في الاحتجاجات الطلابية.

في وقت لاحق ألتقي بقيادية أخرى في الحركة الطلابية، وهي شهلة رشيد شورا، الرئيسة النائبة لمجلس طلبة جامعة جواهر لال نهرو، وكنت قد لمحت صورتها في الطائرة في إحدى الصحف الهندية.

شهلة، في الأصل من إقليم كشمير، لا تحمل فحسب صوت النساء، إنما كذلك صوت من يتم اضطهادهم على خلفية انتمائهم أو انتماء عائلاتهم الديني، في هذه الحالة، الإسلام. قبل بضعة أسابيع، جرى اعتقال عمر خالد وهو أحد زملائها في الجامعة ومن النشيطين في الحركة الطلابية، ويقبع حالياً في السجن.

في أعقاب انتقاداته العلنية لسياسة الحكومة خلال مظاهرات الطلاب في حرم الجامعة، اتهمت السلطات عمر ذي الأصول الكشميرية، بالارهاب وبانتمائه للحركة الانفصالية "جيش محمد" الناشطة في إقليم كشمير. إلا إن ما غفلته السلطات في هذه الحالة، أن عمر جاهد لعدة سنين، ضد عائلته خاصة، لتعريف نفسه كعلماني، نائياً بنفسه عن أي انتماء ديني.

عقب ظهور اتهامات الشرطة لعمر، تحدث والده إلى وسائل الإعلام قائلاً إنه كان يتمنى لو أن ابنه آمن بمحمد من أساسه! عملية اعتقال عمر، وتوجيه الاتهامات له بترديد شعارات مناهضة للهند وبالتالي بالخيانة (وفق قانون عمل به الاستعمار البريطاني في الهند)، تأتي ضمن سلسلة اعتقالات أخرى بين صفوف الطلاب، بما فيها اعتقال كانهايا كومار، رئيس مجلس الطلبة في جامعة جواهر لال نهرو ورئيس اتحاد الطلبة قاطبة في الهند في الآن ذاته.

بعد بضعة أيام، أنضم إلى مسيرة دعا إليها الطلاب في الجامعة، ويشارك فيها طلبة من جامعات أخرى في الهند، وأساتذة جامعيون ومثقفون، وكتاب وناشرون وفنانون، ونسويات وموظفون حكوميون، وخريجو جامعات إلى جانب فئات أخرى كثيرة. تنادي المسيرة بشكل رئيسي، بإطلاق سراح الطلاب المعتقلين وكفّ الحكومة هجومها على الحريات عامة. "أزادي" كان الشعار الذي راح يردده المتظاهرون.

تشرح فريدة خان، وهي محاضرة في جامعة ملية إسلامية، معنى مصطلح "أزادي" أثناء سيرنا إلى جانب المتظاهرين. "أزادي"، وتعني الحرية، هي كلمة ردّدها في البدء نشطاء سياسيّون كشميريّون، إلا أن استخدامها من قبل السلطات لإدانة الطلاب المعتقلين بالخيانة، مدّعية أنها شعار مناهض للهند، جعَل مجموعات أخرى مضطهَدة تتبنى العبارةَ التي تُستخدم، كذلك، في نداءات التحرّر من النظام الطبقي، ومن سيطرة النخبة، ومن الذكورية.

فجأة ألمح سُكريتا لاهيري، الطالبة التي التقيت بها قبل أيام في حرم جامعة جواهرلال نهرو، حاملة ابتسامتها المشرقة إياها. نمشي جنباً إلى جنب بصمت إلى أن أسألها في لحظة ما، إن كانت نشيطة في الحركة الطلابية منذ زمن طويل.

تجيبني بأنها في الأصل من بلدة صغيرة قريبة من مدينة بومباي، حيث لم يكن لها أي اهتمامات بالسياسة. ثم في الصف العاشر، وهي تكاد تبلغ خمسة عشر عاماً، قررت ترك عائلتها وبلدتها، والانتقال إلى نيودلهي لإتمام دراستها الثانوية والالتحاق بجامعة جواهر لال نهرو فيما بعد.

ثم جاء العام 2012، حين جرى الهجوم العنيف والاغتصاب الجماعي لطالبة الطب في نيودلهي. هذه الحادثة، تقول سُكريتا، قد شكّلت وعيها كما لم تفعل أي حادثة أخرى، إذ أدركتْ ضرورة محاربة عدم العدل والاضطهاد، والعمل على توفير حقوق مساوية للنساء ولكافة المضطهدين في كل مكان.

ما أن أسرّتْ لي بهذا، حتى انتباني الإحساس بالخجل والإلهام معاً. الخجل نحو وقوعي في فخ الخوف على سلامتي فحسب، بعد قراءتي للتحذيرات الموجّهة للمسافرين إلى الهند في أعقاب حادثة الاغتصاب والقتل تلك، والذي لا بد أن الكثير غيري قد وقعوا فيه، بينما بالنسبة إلى آخرين مثل سُكريتا، كانت الحادثة نداء من أجل العمل لحماية المستضعفين. ما زالت طالبة في مستهل طريقها، سُكريتا هي فعلاً أحد أفضل المعلِّمين الذين التقيت بهم إلى يومي هذا.


* كاتبة فلسطينية مقيمة في برلين

دلالات
المساهمون