رياضيّو الحزن

13 مارس 2020
باول-هنري كامبل (فولكر ديرلاث)
+ الخط -

برز اتجاه غريب في الأدب في السنوات الأخيرة الماضية. وكشعراء، أصبحنا جميعاً رياضيّين في لعبة الحزن. نتنافس مَنْ منّا الأكثر حُزناً في الشعر وما الثيمات الأكثر ألماً. وبهذا المنطق، يكون الشاعر الأفضل هو مَن عاش المعاناة أكثر من سواه، حتى ليبدو أنه حيث يكون الحزنُ تكون الأرض المقدّسة.

وهكذا، في القراءات الشعرية، يتنافس رياضيّو الحزن في ميادين الظلم أو الألم أو العصبية أو القهر أو العِرْقية أو التمييز الجنسي أو ضيق ذات اليد. وبعد قراءة أشعارٍ كتلك، نحارُ بين التبرُّع بشفرات حلاقة حادة للحضور وبين البكاء. يبدو أن الشعر قد بات حدثاً حزيناً في واقع الأمر.

لماذا يحدث ذلك؟ لا أريد القول إنه ظاهرة غير صحيّة وإنما دعونا نمتحن الأمرَ لوهلة. ولنتفكّرْ في ما تعنيه قصيدة حزينة أو لماذا يبدو الكثير من شعرنا المعاصر رجْعاً لتلك القصائد.

لإلقاء الضوء على أفكاري، اسمحوا لي بأن أقدّم لكم نبذة عن مسيرتي كشاعر. اسمحوا لي بأن أُوضّح كيف نشأتْ قصيدتي الحزينة. اسمحوا لي بأن أبيّن لكم كيف يخلق الشعرُ الشاعرَ وكيف يخلقُ الشاعرُ الشعرَ. إنها المفارقة الأبدية: الشعر في خلقِه الشاعرَ الذي هو نفسه خالق الشعر.

عندما كنتُ أصغر عمراً، كان شِعري يشبه علبةَ الدُّمى. كتبتُ أشعاراً عن روّاد الفضاء، والطائرة التي تفوق سرعتُها سرعةَ الصوت، وسيارات السباق، ومقصورات الترفيه الدوّارة، والسفن الفضائية التي تنطلق في الليالي المرصّعة بالنجوم. بل كتبتُ بالفعل كتاباً كاملاً حمل عنوان سباق الفضاء (2013)، وفي قصائده ثمّة احتفاء بالسباق إلى القمر، بشيء أنجزه البشر، ليس لأنه كان أمراً سهلاً، وإنما لأنه كان عسيراً.

إن "سباقَ الفضاء" أوديسةٌ عصرية- تضمّنتْ مغامراتِها الخاصةَ مثل بعثات أبولو، ووقائعها مثل سبوتنيك، وأبطالها مثل يوري غاغارين أو نيل أرمسترونغ، وحتى تلك الكلبة المسكينة المسمّاة "لايكا" التي أرسلها الروس إلى الفضاء. أبداً لن ننسى لايكا الكلبة رائدة الفضاء الروسية.

لذلك يمكن القول إني بدأتُ بكتابة شعر مغرم باستعارات القمر الصناعي ومنصة الإطلاق والصاروخ. ولكن بعد الكتابة عن سفن الفضاء وسيارات السباق، التفتُّ إلى موضوع مختلف. كان شيئاً مستمدّاً من دراستي في الجامعة.

لقد درستُ الإغريقية القديمة، وبالتأكيد قدراً لا يستهان به من نتاج أفلاطون وثوسيديديس وهوميروس الذي من شأنه أن يؤذي العقل السليم من جانب آخر. وهكذا بدأ شِعري رحلته رجوعاً عدةَ قرون في ماضٍ متخيَّل، وأرض بعيدة لم أزرها أثناء دراستي. والآن أهوى المجازات التي تشبه المتاهة.

كما حفلَ شعري بأكثر الإشارات غموضاً إلى الميثولوجيا الإغريقية. ويبدو لي أن أعظم شعراء هذه الأيام هو الشاعر العالِم، الشاعر الذي يلمّ بمعرفةٍ موسوعية عن العالم القديم. أردتُ أن يكون الشاعرُ أورفيوسَ وسقراط في آنٍ معاً. والحقُّ أني أغرمتُ بمثال الشاعر أورفيوس التراقيّ. إنه أورفيوس الموسيقي، أورفيوس الشاعر، أورفيوس النذير. وكانت تطوف في خيالي صورةُ الشاعر- المثال وهو يخطر ويخطو في المكان تحت ظلال أشجار الزيتون على عشب رطيب مندى في الصباح الربيعيّ.

وفي هذه الأيام يصدمني كم كان شِعريَ أجوفَ، إذ طالما كتبتُه من على سفح جبل الأولمب. في هذه الأيام يثير لدي الانقباض أن أكتشف كم يمكن الاستغناء عن تلك القصائد. نعم، كتبتُ ذلك النوع من الشعر في القرن الحادي والعشرين، وأعرف، بالمقارنة مع العديد من الشعراء الآخرين، أنني لستُ الشاعر الوحيد الذي يكتب عن الأشياء الغابرة في هذا القرن. كأنّ العالم يخلو من الطائرات، ومن الهواتف الخلوية، كأن العالم مكان ساكن وهامد، وكأنما الشعر كان شيئاً جاء من الكتب ونُظِمَ كي يعود إلى الكتب.

لكنّ ما هو أهم من إدراك أن شعري لم يقلْ شيئاً عن العالم المحيط بي، هي حقيقة أنه لم يقلْ شيئاً عني كشخص، ولا عني كفرد من هذه البشرية.

لم يقلْ شعري شيئاً عني؟

قد تقولون، ومَن يبالي

ما الذي يريد العالم أن يعرفه من شخصٍ عشواء؟

حسناً، لقد حدث لي شيء غريب. كنتُ في المشفى. وسبق أن ذهبتُ إلى المشفى مراتٍ عديدةً في حياتي. والواقع أن المشافي جزء من ذكرياتي المبكرة، فقد وُلدتُ ومعي علّة خطيرة في القلب. ولذلك كنتُ أرتاد المشافي منذ مطلع الطفولة. وربما أُجريَتْ لي عشر عمليات جراحية ولديّ جهاز تنظيم لنبض القلب مذ كنتُ في الرابعة والعشرين. لكن في هذه المرة، وقد مضت عدة سنوات على ذلك الآن، حدث شيء غريب.

كنتُ في هايدلبرغ، ألمانيا. مكثتُ في مشفى الجامعة بانتظار جراحة في القلب. وبعد أن أنهى طبيب القلب استخدام مشرطه، مع نهاية العملية، نُقلتُ إلى حجرة الإيقاظ. وهي حجرة ضمن وحدة العناية المركزة، حيث أنتظر حتى يتلاشى أثر المخدر وأصحو. وقد صحوتُ. وبالتأكيد يشعر المرء بحالة زريّة تشبه آثار الإفراط بشرب الخمور. لقد نجوتُ من الموت مرّة أخرى.

ولكن سيحدث أمر آخر الآن. فبعد ساعات يُدفَع صبي صغير، ربما في الثالثة من عمره، على نقّالة إلى الغرفة المجاورة قادماً من الرواق. أسمعهم يتحدّثون عنه. كان يعاني من الحالة القلبية ذاتها التي وُلدتُ بها. كل شيء جرى على ما يرام معه. لقد نجا من الموت. كلّ شيء عظيم. كانت الجراحة ناجحة. كل شيء سار وفْقَ المخطط. كان الطبيب سعيداً للغاية. وبالطبع كان والدا الطفل سعيدَين ومرتاحَين.

ثم حلّ الليل. كان ليلاً في مشفى. لم يكن النورُ مطفأً، لكنه لم يكن مُضاءً. تجوّلت الممرّضات خارج الغرفة في الرواق كالأشباح، وأحياناً كنَّ يلقين نظرة سريعة إلى الغرفة أو يدخلن لتغيير أحد الأنابيب. كان يمكن سماع صفير خافت من جهاز في مكان ما. لكن كلّ شيء كان مليئاً بالحياة وهادئاً في الآن نفسه. إنها ليلة عادية في المشفى. إنها ليلة عادية في وحدة العناية المركّزة. لا أستطيع النوم.

أنا مولع بالمواد الأفيونية التي يعطونها لي كمسكنات للألم. فجأةً، يدوي إنذار. لم أتبيّن مصدره في بادئ الأمر، حتى رأيتُ أحدهم يهرع إلى الغرفة المجاورة حيث الطفل. ثم يدخل المزيد من الناس إلى غرفته. بعد ذلك يُحضرون معدّات طبية إلى داخلها. الأطباء والممرضات هادئون ومحترفون للغاية. اللغة المتداولة بين الأطباء والممرضات مقتضبة ودقيقة. تكاد تكون مثل اللغة العسكرية. والطوارئ عملهم الروتيني. لكنهم لا يزالون غافلين عن إيقاف جهاز الإنذار. والمزيد من الأشياء تُدخَل إلى الغرفة من الرواق. إلى أن توقّف كلّ شيء فجأةً. كأنما الليل برمّته، وكلّ مَن فيه أصبح بسرعةٍ أسيرَ قبضةٍ ثم بشكل فجائي أفلتته هذه القبضة. وعَمَّ السكونُ كلَّ شيء.

رحَل الصبيّ. أُجريَت له الجراحة على أكمل وجه. نجا من الموت. كان الجميع سعداء. لكنه انتُزِع الآن بغتةً، رحل، مات، أخذه الملاك الأسود. وهناك ستحلّ لحظةٌ لا عدالة فيها، لا رحمة. فقط هناك ذلك الصبي الذي لم يعد موجوداً.

كان الأمرُ عشواء. واستغرق مني الأمر بضعة أيام كي أستجمع فكرةَ أنني كنتُ أمرّ بالحالة نفسها. أنني نجوت من الموت. أنني قضيتُ ثلاثين سنة بعد تاريخ انتهاء صلاحيتي. أنّ الطفل الذي جاورني قد مات، لكنني لم أمتْ. أن العيشَ عشواءٌ مكتمل. أن الحياة والموت ليسا إلّا فرقعة سريعة.

لكن كانت اللحظة التي أدركتُ خلالها أن لا وقت لمجازات السفن الفضائية أو صورة أورفيوس الجميلة. لأن الشعر وُجِدَ كي يزيل عشواءَ وجودِنا الظالمَ. لا يخلق الشعرُ الشاعرَ فحسب، بل يخلق العالَمَ الذي يحيط بالشاعر أو الشاعرة. إنه المحرّك الوحيد المتاح أمامنا، الصانع الأقصى للمعنى.

ليس الشعر ختماً. إنه الخط الأسود الكثيف الذي نرسمه تحت أسمائنا. الخط الأسود الكثيف الذي نرسمه تحت أسمائنا لكي نرسّخها، وبذلك لن يحدثَ أن تُشطَب أسماؤنا. إن الشعر هو التمردُ في وجه العدم والوسيلة الأكثر جهراً لأنْ يقول المرء أنا هنا.

بهذا المعنى لن يكون الشعر حزيناً، بل إن حزنه هو الغبطةُ الأعظم التي يمكننا إنجابها كبشر ناطقين وهو التعبيرُ الأنقى عن إنسانيتنا، احتفاءً بحياتنا ضد عشوائيةِ العدم.


* Paul-Henri Campbell شاعر وقاصّ أميركي ألماني، من مواليد عام 1982، يكتب بالإنكليزية والألمانية. درس اللغات الكلاسيكية مع تركيز على الإغريقية بالإضافة إلى اللاهوت في "جامعة إيرلندا الوطنية" و"جامعة غوته" في فرانكفورت. دفعته دراسته إلى البحث في أساطير العصر الحديث، ضمن ما يُعرَف بـ"الواقعية الميثولوجية". من إصداراته: "سباق الفضاء" في 2012، و"الوشم والدين" في 2013، و"بعد التخدير" في 2017. فاز بـ"جائزة هرمان هسه" في 2018.

** ترجمة عن الإنكليزية أحمد م. أحمد

المساهمون