الهادي درغام يبيعُ أدب السجون على أرصفة تونس

11 يوليو 2015
(العربي الجديد)
+ الخط -

في مايو/أيار الماضي، اختارَ هادي درغام بيع الكتب على أحد أرصفة شوارع تونس العاصمة، وتحديداً أمام مقر هيئة الحقيقة والكرامة، التي تهتم بمتابعة قضايا جميع الذين ظلموا خلال حقبتي الرئيس السابق الحبيب بورقيبة والرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. مشهدٌ استغربه البعض، وتساءلوا عن سبب اختيار هذا المكان بالتحديد.
لدى درغام أسبابه. يقول إنه اختار هذا المكان حتى يلفت انتباه كل من يأتي إلى الهيئة للتبليغ عما تعرّض له خلال حقبتي بورقيبة وبن علي. يضيف: "أريد إخبارهم أن هذه الكتب تحوي تاريخهم ونضالهم والظلم الذي تعرّضوا له، وقد وثقت كل شيء حتى لا ينساه التاريخ".

من هذا المكان بدأت قصة درغام مع بيع الكتب، والتنقل من مكان إلى آخر عله يساهم في إيصالها إلى أكبر عدد من القراء. يبيع كتباً على غرار "سنوات الجمر" و"دراقة" و"انتماء" و"الدكتاتور" وغيرها التي نشرت بعد ثورة 14 يناير/كانون الثاني، وأراد كتّابها توثيق انتهاكات الماضي في السجون، وسرد كل ما تعرّضوا له من تعذيب وقمع واضطهاد خلال حقبتي بورقيبة وبن علي.
اختار درغام بيع الكتب التي تحكي عن السجون ومذكرات السجناء السياسيين والمفكرين الذين كانوا شهوداً على تيتك الحقبتين "حتى لا ينسى الشعب معاناة من ظلموا وقمعوا من أجل الكلمة الحرة، ولا يعود ظلم الماضي، ويكون عبرة للأجيال القادمة لتدافع عن حقها بحرية النشاط السياسي وقول الكلمة الحرّة".

درغام الذي يبلغ من العمر 50 عاماً، ينحدر من منطقة المطوية في محافظة قابس جنوب البلاد. هو أيضاً سجين سياسي سابق خلال حقبتي بورقيبة وبن علي. في المرة الأولى، اعتقل على خلفية مقال نشر في جريدة المغرب العربي، انتقد فيه نظام بورقيبة وقمعه للحريّات. وخلال حكم بن علي، سجن مدة سبع سنوات بتهمة الانتماء إلى حركة النهضة. يقول لـ "العربي الجديد" إنه خلال هذه السنوات السبع تعرّض، حاله حال غيره من السجناء السياسيين، إلى القمع والظلم "بتهم كيدية". حتى بعد خروجه من السجن، ظل يخضع للرقابة الأمنية اليومية، وحرم من الحصول على وظيفة. أتقن العمل الحرفي ليتمكن من تأمين لقمة العيش لعائلته. وعلى الرغم من حصوله على عمل في إحدى الشركات، فإنه تعرّض لمضايقات ما اضطره إلى تركه.

اقرأ أيضاً: التعذيب.. ما يخشاه معتقلو تونس

بدورها، لم تكن عائلته بمنأى عن المضايقات والرقابة وأعمال الدهم المستمرة. ظلت على هذه الحال لأكثر من 20 عاماً، إلى حين حصوله هو وغيره من السجناء السياسيين على العفو التشريعي بعد الثورة.
لن ينسى درغام هذه المرحلة من حياته. يتمنى لو أنه يتمتع بموهبة الكتابة ليعبر عن عذاباته. لكنّه وجد ما رغب في قوله في كتب أخرى. يضيف أنه ساهم ولو بنسبة ضئيلة في تلك الكتب التي اختار أصحابها توثيق ما حصل في سجون بورقيبة وبن علي.

بعد الثورة، وجد درغام في بيع الكتب مورد رزق له. لا تنحصر أهمية الكتب في الأقلام البارعة التي وثّقت قصص عذابات الناس، بل كون هذه الأقلام قد تعرضت للتعذيب أو كانت شاهدة على معاناة الغير. اختار إيصال تلك المعاناة إلى جميع الناس وفي مختلف المحافظات. تجده يتنقل يومياً من رصيف إلى آخر لعرض الكتب أمام المارة. يعلّق: "ذكّر لعلّ الذكرى تنفع. لا بد أن يعرف جميع التونسيين الظلم حتى لا يسمحوا بعودته". لم يشأ بيع الكتب في محل واحد، علماً أنه منع أكثر من مرّة من بيعها على الأرصفة، ليكون عرضة للرقابة حتى بعد الثورة. يقول: "كما منعتني عصا الشرطة من قول كلمتي بحريّة، تمنعني اليوم من بيع كتب توثّق ما كنا نعانيه. واليوم، أُمنع من بيع كتبي أمام البرلمان، وقد اخترت هذا المكان (مقر هيئة الحقيقة والكرامة) للفت انتباه النواب إلى ما وثقته تلك الكتب حتى لا تعود ممارسات الماضي".

يتابع حديثه وهو يجمع كتبه في حقيبته الزرقاء، قائلاً: "أتمنى أن أبيع كتبي أمام الوزارات وفي ساحة الحكومة وجميع الأماكن العامة. أبيع تاريخاً يجب أن يكون عبرة لكثيرين". يومياً، يبيع ما بين خمسة إلى عشرة كتب، توفر له دخلاً بسيطاً لكن كافياً لتأمين مصاريف عائلته اليومية. القطار هو وسيلته للوصول إلى مختلف المحافظات بهدف إيصال الكتب إلى الناس الذين يطلبونها منه. وأحياناً، يلجأ إلى إرسالها عبر البريد. يتابع أنه كان يظن أنّ التونسي لم يعد مهتماً بالمطالعة. لكن منذ اختار بيع الكتب لاحظ مدى الاهتمام بالكتب، وخصوصاً تلك التي وثّقت أحداثاً كان كثيراً منها مجهولاً بالنسبة إليهم.
يحلم بائع الكتب بإقامة معرض كبير لأدب السجون ليزوره جميع التونسيين، علّ تلك المعاناة تصل إلى جميع الأجيال، "حتى لا ننسى التاريخ، ولا تضيع الثورة".

اقرأ أيضاً: راضية النصراوي: التعذيب مستمر في تونس
المساهمون