جلول الغربي.. حكاية 55 عاماً مع الشاشيّة التونسية

18 ابريل 2015
امتهن هذه الحرفة مذ كان في العاشرة (العربي الجديد)
+ الخط -
يمشّط "الشاشيّة" بحركات خفيفة حتى تصير ناعمة. يقلّبها بين يدَيه ويرفع ناظرَيه من دون أن ينقطع عن تمرير المشط الخاص بسرعة. وبنبرة المتحسّر يقول: "هي صناعة لم تندثر، لكن قلّ حرفيّوها. ما عادت تلقى الاهتمام والرواج السابقَين".

هو جلول الغربي (65 عاماً)، أحد أقدم "الشوّاشين" في سوق المدينة العتيقة في العاصمة تونس. احترف هذه المهنة منذ 55 عاماً، واعتاد اللّون الأحمر ورائحة الصوف ورونق المدينة والتاريخ. بالنسبة إليه هي "حرفة تحتاج إلى لمسات فنية وصبر وحب للعمل. لكن معظم الناس اليوم باتوا يفكرون فقط في الربح المادي، مهملين أهمية الحفاظ على هذه الحرفة التي توارثناها عبر الأجيال".

والشاشيّة هي قبعة للرجال، حمراء اللون، تسمّى في الدول العربية الأخرى الطربوش، وتعود صناعتها إلى مدينة القيروان في وسط تونس كحرفة منذ القرن الثاني للهجرة. ومصطلح "شاشيّة" مشتقّ من "شاش"، اسم مدينة في خراسان. وكان الجنود الخراسانيون الذين شاركوا مع القائد الإسلامي عقبة بن نافع في فتح مدينة القيروان التونسية في عام 670 ميلادية، قد أدخلوا صناعة الشاشية إلى القيروان. وصارت تُعرف بالشاشية القيروانية. بعد ذلك، انتشرت لتصبح من الصناعات التقليدية والفنية التي انتشرت في بقية المدن التونسية، لا سيما العاصمة وجربة وسوسة. أما حرفيّوها فيطلق عليهم اسم "الشواشين" وقد استحوذوا على أكثر من نصف سوق المدينة العتيقة.

تعلّم جلول الغربي الحرفة من عمّه وابن عمّه، مذ كان في العاشرة من عمره. فالآباء كانوا "حريصين على أن يتعلّم أبناؤهم إحدى الحرف في المدينة العتيقة. لذا كانوا يختارون تعليمهم إما النقش على النحاس أو النجارة أو صناعة الشاشية أو غيرها".

والشاشية، بحسب ما يخبر العمّ جلول، كان يعتمرها يومياً الكبار والصغار والفقراء والأغنياء، فتقيهم حرّ الشمس صيفاً والبرد شتاءً. وموظفو القطاع العام كانوا يعتمرونها أيضاً. كذلك كانت تفعل مجموعة كبيرة من رجال الفكر والثقافة حتى مع البذلة العصرية في الماضي. أما اليوم، فهي تُعتمر فقط في المناسبات. وهو ما أدّى إلى اندثارها واختفاء حرفييها. وبعدما كان عددهم يصل إلى 400 حرفي في المدينة العتيقة، لم يعد يتجاوز اليوم العشرين.

وقبل أن تتخذ الشاشية شكلها الدائري بلونها القرمزي المميّز أو بألوان أخرى كالأسود والرمادي، تمرّ بمراحل عديدة. في البداية يصار إلى اختيار الصوف الفاخر ويُحاك على شكل "كبوس" (طربوش)، لتبدأ بعدها عملية التلبيد والتمشيط حتى تصبح ليّنة وتُصبغ. وتصنع الشاشية على شكل أسطواني من صوف الغنم لتمتص الماء ببطء وتقاوم الانكماش وتحافظ على رونق وجمال الشاشية وتجعلها سهلة التنظيف. وتمتاز الشاشية باحتفاظها الدائم بشكلها، إذ إنها غير قابلة للتجعد أو الانثناء.

في دكانه المتواضع، يحتفظ العمّ جلول بأدواته القديمة التي رافقته منذ زمن بعيد بشكل عشوائي. ودكانه هذا يحافظ على طابعه الأصيل مع زخرفات أثاثه القديم. وبأدواته البسيطة، يحاول مواجهة اندثار الشاشية منذ أكثر من 50 عاماً. يقول: "أتمنى لو أعلّم الحرفة للأجيال اللاحقة. لكن بحسب ما يبدو، لا تستهوي هذه الحرفة أحداً لقلّة أرباحها المالية".

مذ ازدهرت هذه الصناعة، راحت تصدّر إلى الجزائر ومالي والنيجر وبعض الأسواق الأفريقية الأخرى، لا سيّما السوق الليبية حيث الطلب على الشاشية السوداء.

على الرغم من التفاؤل الذي يُلحظ في نبرة العمّ جلول الذي يؤكد أنّ الصناعة لم تندثر ولن تندثر، إلا أنه يشدّد على أنّ "عدم الاهتمام بهذه الحرفة التي تؤرخ لتقاليد تونس وحضارتها وأصالتها، سيؤدي إلى اندثارها". ويستغرب عدم اعتمار أعضاء الحكومة أو أعضاء البرلمان الشاشية التونسية، لا سيّما في خلال زياراتهم للخارج، "فالمعلم أو الأستاذ بارتدائه الشاشية يكون قدوة للأجيال اللاحقة حتى تحافظ على التراث واللباس التقليدي".

وكانت صناعة الشاشية قد عرفت أزمة حقيقية بعد الاستقلال، إذ تخلّى التونسيون عنها لصالح موضة الملابس العصرية المستوردة، وخصوصاً أن الشباب راحوا يختارون القبعات التي تحمل علامات عالمية. فظلت الشاشية حاضرة فقط في المناطق الريفية والبدوية.

إلى ذلك، راح الحرفيّون يصنعون الشاشية للنسوة أيضاً، لتتميّز عن تلك الخاصة بالرجال من خلال التطريز أو بعض الزينة الأخرى.

بالنسبة إلى العمّ جلول، "تستطيع الدولة التونسية أو أرباب العمل تنشيط هذه الحرفة. ففي مايو/ أيار من كلّ عام يحتفل العمال بيومهم. ولو اعتمدت الشاشية من ضمن زيّ العمل الذي يوزّع سنوياً على العمال، فإنّ من شأن ذلك أن يشجع الحرفيين على امتهان هذه الحرفة".
دلالات
المساهمون