في مشهد بعيد عن ميادين السياسة وساحات الحرب، تشهد ليبيا على غزو غير مسبوق للأغذية الفاسدة التي تمس حياة وصحة المواطن، وهو ما تؤكده تقارير الجهات الرسمية ومستشفيات البلاد.
في جنوب العاصمة الليبية طرابلس يعتبر سوق الكريمية المركز الرئيس لتوزيع الأغذية الفاسدة على كلّ ربوع ليبيا. هذا النشاط غير المسبوق في البلاد بسبب الحرب يهدد صحة الليبيين، ويؤكد مسؤول في جهاز الحرس البلدي عدم خضوع السوق إلى أيّ رقابة من أيّ جهة حكومية.
يقول المصدر، الذي طلب عدم ذكر اسمه، إنّ السوق يقع على مساحة كبيرة جداً، وهو تحت حماية مليشيات يمولها تجار الأغذية الفاسدة ولا يمكن للجهات الحكومية الوصول إليه، فقد تعرضت للتهديد أكثر من مرة. حول طرق وصول هذه الأغذية إلى ليبيا، يقول: "تصل عبر المنافذ الرسمية، وأغلبها عبر البرّ وبعضها عن طريق الموانئ التي لا تخضع لسيطرة الدولة، وهذا أمر متعارف عليه". يؤكد أنّ قوات الجمارك والحرس البلدي معطلة عن أداء عملها، باستثناء العمل الإداري الروتيني.
عن أنواع الأغذية الفاسدة، يقول علي البوعيشي، من مركز الرقابة على الأغذية والأدوية، إنّ الكارثة تتركز في المواد الأكثر استهلاكاً: "نحن لا نكتشفها إلّا داخل السوق، وعند أخذ عينات منها نجد أنّها صنعت من مواد فاسدة خارج ليبيا لتأتي إلى ليبيا خصيصاً لتصريفها، فالبحث يؤكد أنّها غير متداول بها خارج ليبيا". يعدد البوعيشي بعض المواد: "الزيوت والطماطم وأنواع من الزبادي والحليب والشوكولاتة"، مؤكداً أنّ مكملات غذائية للأطفال اكتشف أنّ بعضها صنع من مواد فاسدة.
يشير البوعيشي في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ نسبة هذه الأغذية الآن في السوق تجاوزت 40 في المائة، ما يؤشر إلى خطورة الوضع بشكل مرتفع، ما استدعى مراسلة جهات دولية للتنبيه إلى مستوى الخطر المحدق بالمواطن. وعن جهود المركز، يقول: "نحن الآن نقاوم من خلال التنبيه عبر الإعلام، إذ ننشر قوائم الأغذية المحظورة وأسباب حظرها". يتابع: "كجهاز حكومي، لا نملك الآن أكثر من صفحة على فيسبوك ننشر عليها أصناف تلك الأغذية وصورها وننبه إلى الخطر الذي قد تسببه"، لافتاً إلى أنّ المركز ليست لديه سلطة لضبط هذه المواد، لكنه يحول تقاريره البحثية إلى الجهات الحكومية التي لا تنصت له نهائياً. ويقول: "نحن نتعرض للتهديد يومياً من أصحاب هذه الشركات الفاسدة، لكننا مصرون على المضيّ، ولن نتوقف عن تنبيه الحكومات والأجهزة الأمنية التي تعيش في مستوى ضعيف جداً من أداء الأعمال المنوطة بها. ويجب أن ألفت انتباهكم إلى أنّ الجهاز يعمل من دون إمكانيات مالية، وأغلب أعماله هي بجهود ذاتية". ويعلق: "نعتقد أنّنا نجحنا نسبياً، فالمتابعون لنشاطنا على الصفحة في ازدياد، كما أنّ بعض قنوات التلفزيون المحلية بدأت في النقل عنا لتنبيه المواطن".
يستدرك البوعيشي: "حتى لا يشعر القارئ بالإحباط، نشير إلى أنّ لدينا أجهزة أمنية تقوم بواجبها في ضبط بعض الكميات وهي التي تصنع بعض التوازن، ولا تترك للتجار ومليشياتهم الساحة مفتوحة، لكنّ عمل هذه الأجهزة لا يتناسب مع حجم المواد الفاسدة التي تدخل إلى البلاد بكثرة".
وعن طريق مسؤول جهاز الحرس البلدي، تمكنت "العربي الجديد" من الحديث هاتفياً مع أحد مسؤولي الشرطة القضائية الذي طلب هو الآخر عدم ذكر اسمه. يؤكد المسؤول أنّ عشرات القضايا وصلت إلى الشرطة من أجل ضبط أصحاب جرائم استيراد الأغذية الفاسدة، لكنّ الشرطة عاجزة تماماً.
يقول: "انهارت الأجهزة الأمنية لدينا إلى درجة طلبنا تدخلاً اجتماعياً من بعض الأعيان لإقناع تاجر بوقف توزيع مكمّل غذائي فاسد للأطفال، وقد نجحنا لأنّ الشرطة حقيقة ليست لديها سلطة حقيقية". وعن نوع المكمّل، يقول: "ليس مهماً الآن... المهم أنّ توزيعه توقف". وفي أيّ منطقة؟ يجيب: "دع هذا الأمر الآن، فنحن نجري أعمالاً مماثلة ولا نريد إفساد الجهود. منطلقنا إنساني وبإمكانيات تحت الصفر ولا نريد أن نفسد الأمر".
يضيف: "نواجه في بعض الأحيان أصحاب شركات معروفة يخافون على سمعتهم فيحتجون بأنّ شحناتهم المستوردة مستوفية للشروط، لكنّها تفسد داخل مخازن الجمارك التي يتهمونها بعرقلة منحهم أمر الدخول، إذ تسيطر عليها مليشيات تطلب المال قبل منح أمر الدخول إلى الأسواق".
من جانبه، يؤكد الدكتور بشير الشريف، الطبيب في المركز الطبي بطرابلس، أنّ حالات التسمم الناتجة عن الأغذية الفاسدة بارزة، ويشير إلى أنّها تراوح ما بين 5 و7 أسبوعياً في المركز. يتابع: "أغلبها يحتاج إلى غسيل معدة، ويعاني أصحابها من أعراض كالغثيان أو التقيؤ، والبعض يعاني من حساسية جلدية بسببها".
من جهتها، تقول المواطنة كريمة الغراري، وهي أم لأربعة أطفال، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الأسعار الرخيصة للمواد الفاسدة تدفع عامة الناس إلى شرائها بالنظر إلى شحّ السيولة النقدية لديهم، وغياب ثقافة الغذاء الصحي".