كشف مصدر مسؤول في وزارة الزراعة المصرية، لـ"العربي الجديد"، أن الحكومة تدرس اقتراحاً بشأن بيع مياه الري للمزارعين خلال الفترة المقبلة، بالتزامن مع التوسع في إنشاء محطات معالجة الصرف الصحي والصناعي، وتحلية مياه البحر، على ضوء فشل مفاوضات سد النهضة الإثيوبي، وانخفاض حصة مصر من مياه النيل مع بدء تشغيل السد رسمياً العام المقبل.
وقال المصدر، الذي رفض ذكر اسمه، إن تشغيل السد الإثيوبي سيحجب حصة كبيرة من مياه النيل عن مصر، ما يعني بوار مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، مستدركاً أن وزارتي الزراعة والموارد المائية والري تدرسان حالياً مقترحاً ببيع المياه للمزارعين، وذلك بتعليمات من رئيس الحكومة مصطفى مدبولي، والقيادة السياسية ممثلة في الرئيس عبد الفتاح السيسي.
وأشار المصدر إلى عدم "الانتهاء من الاقتراح في صورته النهائية، إذ توجد نقاط ما زالت تحت البحث، مثل آلية بيع المياه في الوقت الراهن، وما إذا كانت بحسب مساحة الأرض (الفدان)، أم من خلال إبلاغ الجمعيات الزراعية في القرى بحيازة كل مزارع؟ ومن ثم حساب المبلغ بصورة تقديرية بشكل شهري ارتباطاً بعدد مرات سقي الأرض، أم بقياس فترة موسم زراعة المحصول".
وتابع أن فشل مفاوضات سد النهضة ووصولها إلى "طريق مسدود"، مثل حالة من القلق لدى أعضاء الحكومة بالكامل، لإعادة الحسابات في الكثير من المشروعات الجارية في البلاد، متوقعاً حدوث فجوة بين الاحتياجات الفعلية للمواطنين وكميات المياه، وسط محاولات من الحكومة لتجاوز الأزمة بإعادة استخدام مياه الصرف، والاعتماد على المياه الجوفية.
وأضاف المصدر الحكومي أن عدداً من المزارعين في المحافظات المصرية لجأوا بالفعل إلى الطلمبات الارتوازية (ماكينة لسحب المياه الجوفية) أخيراً، على الرغم من كلفتها المرتفعة التي تصل إلى نحو مائة ألف جنيه، لتعويض نقص مياه الري عبر النيل، وعدم وصولها إلى نهايات الترع والمصارف في مختلف المحافظات المصرية، ليستعيض الفلاح بالمياه الجوفية في الزراعة عوضاً عنها.
وأكد أن هناك تخوفاً كبيراً من قبل المزارعين على مستقبل "الطلمبات الارتوازية" عقب صدور قانون الري المرتقب، وإقراره خلال دور الانعقاد الأخير لمجلس النواب، كونه يفرض المزيد من الإجراءات القانونية على المزارعين، وعلى جميع مصادر المياه، في الوقت الذي يستهلك فيه قطاع الزراعة في مصر نحو 85 في المائة من مواردها المائية.
وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد كشف عن شروع حكومته في تنفيذ خطة تستهدف قطع مياه النيل عن مناطق الساحل الشمالي والبحر الأحمر، والاعتماد في هذه المناطق على تحلية مياه البحر، بذريعة مواجهة العجز المائي الذي تواجهه البلاد، لا سيما مع تعثر مفاوضات سد النهضة الإثيوبي.
وأعلن السيسي، خلال فعاليات ندوة تثقيفية نظمها الجيش، أول من أمس، الانتهاء "تقريباً" من هذه الخطة، إثر تخصيص ما يقترب من 200 مليار جنيه كلفة محطات المعالجة والتحلية، متوقعاً أن تصل كلفة المشروع بأكمله إلى 300 مليار جنيه (نحو 18 مليار دولار أميركي) عند الانتهاء منه العام المقبل.
وفي غضون ذلك، اشتكت جموع المزارعين في محافظات الوجهين البحري والقبلي من ندرة مياه الري وعدم وصولها إلى الأراضي بكميات مناسبة للزراعة، ما كبد الفلاحين خسائر مادية فادحة وزيادة في كلفة الزراعة، وهو ما دفع البعض منهم إلى ري الأراضي بمياه الصرف الزراعي المخلوطة بمياه الصرف الصحي، تحت ذريعة حمايتها من العطش والبوار والتلف.
ولم تقف معاناة المزارعين في مصر عند هذا الحد، بل امتدت إلى زيادة أسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي من الأسمدة والمبيدات والتقاوي، نتيجة الارتفاع في أسعار بيع المواد البترولية، فضلاً عن زيادة أجور الأيدي العاملة لمواكبة الارتفاعات المستمرة في أسعار السلع والخدمات، بما لا يتناسب مع أسعار المحاصيل الاستراتيجية التي يحددها التجار دون الاكتراث بالكلفة الكبيرة التي تقع على كاهل المزارعين.
وحسب مراقبين، يئن القطاع من مشكلات عديدة تمثل كابوساً مستمراً للمزارعين، بالرغم من أن الزراعة تعد العمود الفقري وحجر الزاوية للاقتصاد المصري، غير أنها تتعرض للخطر جراء السياسات المتضاربة لوزارتي الزراعة والموارد المائية والري، محذرين من شروع الحكومة في تنفيذ اقتراح بيع مياه النيل، وما سيتبعه من ارتفاع غير مسبوق في أسعار المحاصيل الزراعية.
وحسب بيانات رسمية، يساهم قطاع الزراعة بأكثر من 14 في المئة من الناتج القومي المحلي في الاقتصاد المصري، وأكثر من 20 في المئة من الصادرات المصرية.
وعلق المزارع محمد طايع على بيع المياه للمزارعين، بالقول: المزارعون كانوا يشترون المياه ولكن بطريقة أخرى، فالمياه الموجودة في الترع والمصارف بصفة عامة تكون ضعيفة بسبب "المناوبات المائية"، ما يضطر المزارع إلى استخدام ماكينات رفع المياه، والتي تحتاج إلى السولار والغاز والزيوت والصيانة الدورية، ما يكلف المزارع الكثير من الأموال.
وأضاف طايع في حديثه مع "العربي الجديد"، أن "عملية بيع المياه تضاف إلى مشاكل المزارع الكثيرة والمتعددة، بما يهدد بحدوث أزمات كبرى في قطاع الزراعة المصري". وهو ما أيده المزارع أحمد عبد الكريم، قائلاً في لهجة غاضبة: "سنتوقف عن الزراعة... أزمات عديدة تواجهنا، فلا توجد أسمدة، وإن وجدت أسعارها مرتفعة، والحكومة تصرف 6 أجوله من الأسمدة فقط لفدان القصب... ولا يجد المزارع أمامه سوى شراء باقي احتياجاته من السوق السوداء".
بدوره، قال المزارع سمير طلب: "قدمنا استغاثات بسبب جفاف الترع، والمخاوف من بوار آلاف الأفدنة عطشاً بفعل عدم توفير المياه المطلوبة، وهو ما ردت عليه الحكومة بري الأراضي بمياه الصرف الصحي".
وأضاف طلب: "من لم يتمكن من الري بواسطة مياه الصرف الصحي اضطر إلى تبوير أرضه... وعملية بيع المياه ستزيد الطين بلة على رؤوس المزارعين"، على حد تعبيره.
بينما قال المزارع علاء الأمين إنه "كل يوم نسمع عن تبوير الأراضي الزراعية بسبب قلة المياه، وبيع الحكومة لمياه النيل معناه أن مصر مقبلة على أزمة مائية كبيرة"، مضيفاً "نحن نعاني الآن من نقص المياه لري الأراضي، فما بالنا بعد تشغيل سد النهضة".
وتابع الأمين: "نحن نضطر لاستخدام ماكينات لسحب المياه الجوفية، رغم الكلفة المرتفعة لذلك على الفلاح بسبب استخدام السولار والكهرباء لتشغيلها".
ووصف المزارع طه مصطفى الحديث عن بيع المياه بأنه "حديث عاجز" من جانب الحكومة لعدم القدرة على حل أزمة سد النهضة، قائلاً: "لم يتبق للحكومة سوى تعبئة الهواء وبيعه للمواطنين للتنفس".
ويرى خبراء أن اتجاه الحكومة إلى "تحليه المياه" مكلف جداً، ولن يستطيع سد العجز في الاحتياجات المائية، مؤكدين أن مصر دخلت بالفعل مرحلة "الفقر المائي"، بعد تناقص نصيب الفرد من المياه إلى 600 متر مكعب سنوياً، بدلاً من ألف متر مكعب وفقاً للمعايير الدولية.
وكان رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي قد أكد أن بلاده دخلت مرحلة "الفقر المائي"، وأن حكومته بدأت في تنفيذ عدة مشروعات كبرى للحفاظ على المياه وتوفير احتياجات المصريين.
وقال مدبولي، الأربعاء الماضي، أمام الجلسة العامة لمجلس النواب لاستعراض الموقف حول سد النهضة الإثيوبي، إنه "طبقا لكل الأرقام الدولية، مصر دخلت مرحلة الفقر المائي، وكلما يزيد عدد السكان يتناقص نصيب الفرد من المياه، فنسبتنا من مياه النيل ثابتة وستظل ثابتة".