نوبل الاقتصاد ودروس للدول الفقيرة

23 أكتوبر 2019
التركيز على المشكلات الصغيرة يساهم في حل مشكلة الفقر(Getty)
+ الخط -
منحت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم الأسبوع الماضي جائزة نوبل للاقتصاد إلى الزوجين ابهيجيت بانرجي واستر دافلو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومايكل كريمر من جامعة هارفارد، تقديراً لجهودهم في إرساء الأسلوب التجريبي الذي اتبعوه، على مدار عقدين من الزمان، في محاولاتهم القضاء على الفقر، باعتباره الهدف الأهم لكل السياسات الاقتصادية، على مر التاريخ.

وأظهرت تجارب قام بها الحاصلون على الجائزة، خلال السنوات الماضية، إمكانية تحقيق نتائج إيجابية، لحل معضلة الفقر، من خلال التركيز على بعض المشكلات الصغيرة، على خلاف ما هو معتاد من محاولات الاقتصاديين التعامل مع القضية من خلال المفاهيم الشاملة.

وركز الباحثون جهودهم على دراسة بعض المشكلات الهامة في الدول الفقيرة، مثل أوجه القصور في التعليم والعناية بصحة الطفل، بحثاً عما يمكن القيام به من تدخلات لتحسين جودة وكفاءة ما يحصل عليه الأطفال في تلك الدول من تعليم وعلاج، وتوفيرهما على نطاق واسع.

وفي تجربة عملية، حاول بانرجي ودافلو معرفة تأثير تعيين بعض المدرسين الإضافيين، كمتعاقدين بصورة مؤقتة، في بعض المدارس الكينية، لمساعدة المدرسين المعينين بالمدارس بعقود دائمة. واعتبر الزوجان أن العقود المؤقتة ستمثل حافزاً لدفع المدرسين لبذل قصارى جهدهم مع الطلاب، لأن الاستغناء عنهم سيكون سهلاً في حال عدم تحقيق نتائج جيدة.

وأوضحت النتائج أن الطلاب الذين تم اختيارهم بصورة عشوائية لحضور الحصص التدريسية مع المدرسين الدائمين، مع الاستفادة ببعض الحصص التكميلية من المؤقتين لم تتحسن درجاتهم، حيث أدت التجربة إلى زيادة معدلات الغياب بين المدرسين الدائمين، الذين كانوا يعرفون أن هناك حصصاً تكميلية، يُعَوَض فيها الدارسون عما فاتهم. أما المجموعة الأخرى، التي تم اختيارها أيضاً بصورة عشوائية، للحضور مع مدرسين مؤقتين فقط، فقد تحسنت درجاتها بصورة واضحة!
وفي دراسة أخرى، في المناطق الريفية في الهند، لاحظ الزوجان أن نسبة 2% فقط من الأطفال في سن سنة وسنتين حصلوا على التطعيمات الأساسية اللازمة، ومرة أخرى كان السبب في ذلك تغيّب المسؤولين عن التطعيم عن مواقعهم، حيث ثبت أن ما يقرب من 50% منهم لم يوجدوا في أماكن عملهم. ورغم تفهم الباحثَين لحقيقة أن أغلب الغائبين كانوا يمارسون عملاً آخر، للتغلب على ضعف أجورهم، فقد كانت النتيجة هي حرمان ملايين الأطفال من حقهم في التطعيمات الأساسية.

لجأ الباحثان، وفريق العاملين معهم، إلى جهة غير حكومية، لعمل ما أطلق عليه "معسكرات" لتطعيم الأطفال، مع توفير بعض الحوافز، لتشجيع الأسر على إحضار أبنائهم، من أجل الحصول على جرعات التطعيم الأساسية اللازمة، فكانت النتائج مبهرة!

كانت نسبة الحاصلين على التطعيمات كاملة، في المناطق التي لا توجد بها "معسكرات" التطعيم لا تتجاوز 6%، بينما ارتفعت في المناطق التي شهدت تجربة "المعسكرات"، بدون أي عوامل تحفيزية أخرى، إلى 8%. عندئذٍ، قرر الباحثون منح كل أسرة تُحضر طفلها للتطعيم كيلو من العدس مع كل جرعة، بالإضافة إلى مكافأتهم بطقم أدوات مائدة معدني عند إتمام مجموعة التطعيمات، فقفزت نسبة من أتموا الحصول على كامل مجموعة التطعيمات الأساسية إلى 39%.

كانت تلك عينة من الأسئلة الصغيرة التي اهتم الباحثون بالبحث عن إجابة عليها، من أجل مساعدة ملايين الفقراء في البلدان الفقيرة في الحصول على حظوظ أفضل من التعليم والعلاج أو التطعيمات. نعم ستضطر الدول لإنفاق بعض الأموال الإضافية، إلا أن النتيجة ستكون إضافة مليارات الدولارات من الناتج المحلي عند تقليل أعداد المتسربين من التعليم، ومساعدة النابهين منهم على الحصول على فرصة التعليم كاملة، تمهيداً للالتحاق بسوق العمل، كما توفير مليارات الدولارات من مصاريف العلاج، التي غالباً ما تتحملها حكومات الدول الفقيرة والنامية، بسبب عدم حصول الأطفال على التطعيمات اللازمة.

ساعدت جهود الباحثين على تحسين جودة التعليم لأكثر من 5 ملايين طالب في المدارس الهندية، كما ألهمت العديد من الحكومات على زيادة إنفاقها الاستثماري في مجالات الصحة الوقائية، لتكون مكافأتهم بعد كل تلك السنوات من العمل الشاق الحصول على الجائزة، التي عُرفت بالتركيز على أصحاب البحوث الأكاديمية النظرية.

أثارت تجارب الباحثين، في كينيا والهند، لديّ العديد من التساؤلات، مع ما أشهده من تدهور واضح في مستوى ما تقدمه حكومة بلدي مصر من تعليم وعلاج للأجيال الجديدة، بدعوى عدم توفر الموارد وضيق ذات اليد. ومع وجود علامات استفهام كبيرة حول أسباب ضعف مخصصات التعليم والصحة والبحث العلمي، في موازنة الدولة المصرية، لاستحواذ بند خدمة الدين على أكثر من 80% من موارد الدولة، وتوجيه مليارات الجنيهات لمشروعات، بدون الاعتداد بدراسات الجدوى، قبل أن يتم الاعتراف بأن الهدف منها كان جمع الناس على مشروع قومي ضخم، وفقاً لتصريحات رسمية ممن هو على رأس هرم السلطة، يقف المرء عاجزاً أمام ما يتم عمله بما تبقى من موارد، من أجل النهوض بالتعليم والصحة، كما يتصور بعض المسؤولين.

ورغم كفاءة المسؤول الأول عن تطوير التعليم في مصر، التي يشهد بها كل من تعامل معه، ما زال طلاب المدارس يعانون من التكدس في الفصول، وضعف المادة المقدمة، كما تراجع الاهتمام بالرياضة وتقديم العناية الصحية، خاصةً في المدارس الحكومية، التي تخدم ملايين الأطفال.

الاستفادة من تجارب الآخرين ليست صعبة، واستنساخ أفكارهم الناجحة ليس عيباً، واختراع العجلة لا يكون محموداً في كل الأحوال. لكن تمسك النظام الحالي باستبعاد كل من يختلف معه في الرأي، سياسياً وأخلاقياً، وتصور أنه وحده من يملك الحلول الصحيحة، "وما تسمعوش كلام حد غيري" و"مش عايز كلام في الموضوع ده تاني"، برغم كل ما نشهده من علامات فشل، إنما يؤكد أننا ما زلنا نحفر تحت الأرض، ليظل مشوار العودة طويلاً، حين يبدأ، بعد زوال الغمة، في القريب العاجل بإذن الله.

المساهمون