درس من واشنطن: البنك المركزي الأميركي يصفع ترامب

20 ديسمبر 2018
ترامب.. هل ينقلب على باول محافظ المركزي الأميركي؟ (Getty)
+ الخط -



ينظر الحكام الديكتاتوريون إلى الأمور من ثقب ضيق وعلى مدى قصير، ويظن أغلبهم في لحظات كثيرة أن الجميع يأتمر بأوامرهم ويخشى سلطتهم، فالمؤسسات والوزارات والجهاز الإداري للدولة، بل والقطاع الخاص، لا بد أن ينفذ تعليماتهم حتى ولو كانت مجرد خواطر لم ترَ النور بعد، وإذا خرجت التعليمات إلى العلن يتم تنفيذها على الفور وبلا تفكير حتى ولو تعارضت أفكار الديكتاتور مع القوانين والأعراف الصحيحة.

وأحياناً يتم تنفيذ التعليمات دون أن يسأل أحد من عامة الشعب عن تقييم ودراسات جدوى اقتصادية لهذه القرارات الفوقية تحدد المكاسب والخسائر والموعد المناسب للتنفيذ والتكلفة المتوقعة والمنافسين، ومدى حاجة البلد إلى المشروع الجديد.

وهكذا تعامل دونالد ترامب مع البنك المركزي الأميركي، الذين يطلقون عليه أسم " مجلس الاحتياط الفيدرالي"، حينما أمر البنك عدة مرات بخفض سعر الفائدة على الدولار والتوقف عن سياسة رفع العائد على العملة الأميركية بحجة أن الرفع يؤثر سلبا على الاستثمار والصادرات، ويرفع تكلفة الأموال في المجتمع، ويزيد الأعباء المالية على الشركات.

بل وحاول ترامب الاعتداء على استقلالية البنك المركزي عبر التأثير عليه واجباره على إتخاذ قرارات بعينها تصب في مصلحة الرئيس الأميركي ومجتمع الاعمال والاستثمار القادم منه.

وهكذا يتعامل ترامب مع البنك المركزي الأميركي، كما يتعامل الحكام الديكتاتوريون في العديد من دول العالم خاصة النامي مع استقلالية البنوك المركزية على أنها نوع من الرفاهية، لكن البنك المركزي ضرب عرض الحائط بتعليمات وضغوط وأحيانا ابتزازات ترامب التي زادت حدتها في الأسبوع الجاري.


ترامب تصور أن البنك المركزي هو مؤسسة تأتمر بأمره كباقي المؤسسات الحكومية والوزارات مثل الدفاع والخارجية والعدل وغيرها، وعندما قدم للسلطة رفض التجديد لجانيت يلين خليفة أبرز محافظ للبنك المركزي الأميركي وهو آلان غرينسبان.

وحتى يحكم ترامب قبضته على البنك المركزي، عيّن "جيرومي باول" خلفا ليلين، وتصور أن المحافظ الجديد الذي أختاره على عينه سينفذ تعليماته حرفيا، وسيحقق له ما يريد، وسيخفض سعر الفائدة على الدولار لتخفيف الأعباء المالية عن كبار المستثمرين والشركات الكبرى.

لكن البنك المركزي الأميركي أثبت مجدداً أنه مستقل عن السلطة الحاكمة في إدارة السياسة النقدية، وأنه المسؤول الوحيد عن تحديد اتجاهات أسعار الفائدة بما يتفق مع مصلحة الاقتصاد ككل، وليس لمصلحة طرف واحد هو الشركات كما يريد ترامب.

قبيل اجتماعه الأخير، حذّر ترامب، الاحتياطي الفيدرالي، من ارتكاب "خطأ جديد" يتمثل في رفع معدلات الفائدة، للمرة الرابعة هذه السنة، وللمرة السابعة منذ توليه الرئاسة، وبنبرة حادة قال: "لا تجعلوا السوق يصبح أكثر سيولة مما هو عليه الآن.. اشعروا بالسوق، لا تفعلوا أشياء لا معنى لها بالأرقام. حظاً موفقاً".

كما واصل ترامب سياسة تقويض استقلالية البنك المركزي الأميركي، حيث دعاه، إلى عدم رفع سعر الفائدة، وكتب في تغريدة: "آمل أن يقرأ الأشخاص هناك في الفيدرالي مقال صحيفة وول ستريت جورنال قبل أن يرتكبوا خطأ آخر".

لكن البنك المركزي صفع أمس الأربعاء ترامب حينما رفع سعر الفائدة على الدولار، وضرب بعرض الحائط بالضغوط العديدة التي مارسها الرئيس الأميركي عليه قبل اجتماع مجلس إدارته.


ولم يكتف البنك بقرار رفع الفائدة، بل أعطى إشارات قوية إلى الأسواق المالية بأن صانعي السياسة النقدية يتوقعون رفع الفائدة مرتين في العام المقبل 2019، بالإضافة إلى مرة واحدة وربما مرتين في العام 2020.

وهو ما يرجح تصاعد الصدام بين ترامب والبنك في الفترة المقبلة، وربما يكرر ترامب مع باول سيناريو ما حدث مع ريكس تيلرسون وزير الخارجية وجيف سيشنز وزير العدل حينما أقالهما من منصبيهما، علما بأن القانون الأميركي يحظر إقالة محافظ البنك المركزي.

جيرومي باول وفريقه أعطوا درسا لترامب في أن البنوك المركزية مستقلة، وأن الدول عليها التمسك باستقلالية بنوكها لأنها الضامن لتحقيق مصالح اقتصاد أي دولة، فالبنوك المركزية هي التي توائم بين مصالح المجتمع المتضاربة، بين مصالح المودع والمقترض، المدخر والمستثمر، معدلات البطالة والنمو، حجم السيولة ومعدل التضخم، ولا تراعي فقط مصالح المستثمرين كما يريد ترامب.

دلالات
المساهمون