I Know This Much Is True: رجلان ضدّ التاريخ

10 نوفمبر 2020
أدّى مارك روفالو دورين صعبين في العمل (HBO)
+ الخط -

ثمة شيء واحد يستطيع المشاهد تأكيده حين ينجح في إكمال مسلسل I know This Much Is True (بطولة مارك روفالو)، وهو أن أياً من القائمين على العمل لم يتخيلوا، تحت أي ظرف، مشهداً عالمياً بائساً كالذي يطغى اليوم. لماذا؟ لأنهم ببساطة كانوا سيؤجلون إنتاج المسلسل (HBO) إلى أن يعود المشاهد قادراً على تحمل مزيد من المآسي. ففي هذا الاقتباس عن الرواية التي تحمل نفس الاسم للكاتب وولي لامب، لا مكان للفرح أو تغير الحظ المفاجئ، بل ثمة إحساس يتعاظم مع كل حلقة بأن الأسوأ لم يحن بعد.

يروي المسلسل قصة التوأم دومينيك وتوماس بيردزي منذ طفولتهما (ولاحقاً حكاية وصول جدهما إلى الولايات المتحدة الأميركية من إيطاليا). تُسرَد القصة في غالبها من منظور دومينيك، الأخ المليء بالغضب والإحباط المزمنين، والذي يعتني بتوماس، المصاب بالشيزوفرينيا والبارانويا والذي قضى الـ 20 سنة الأخيرة متنقلاً بين مصحات العلاج.

يبدأ المسلسل بسرد الأحداث بلقطة صادمة، حين يقطع توماس يده في مكتبة عامة، معتقداً أنها أضحية يستطيع من خلالها تجنيب الولايات المتحدة الأميركية خوض حرب الخليج، ويتنقل بذلك من المصح الذي يقطن فيه إلى آخر بحراسة أمنية مشددة. 

ومنذ هذه اللحظة، يبدأ المسلسل بالغوص في العذاب أكثر. وحالما يبدأ دومينيك محاولاته لإخراج توماس من المشفى وإعادته إلى المصح القديم، يبدأ الترحال بين نقط زمنية عدة، كطفولة دومينيك وتوماس، التي عاشاها من دون أن يعرفا هوية والدهما، والتي تعرضا خلالها لمضايقات زوج أمهما العنيف الذي كان يتقصد التركيز على توماس، معتقداً أن الصرامة ستحسن من وضعه، أو مرحلة دراستهما الجامعية والفترة الأخيرة التي سبقت وفاة والدتهما بالسرطان، وبعدها نحو قصة الجد عبر المخطوط الذي يطلب دومينيك من نيدرا ترجمته.

إضافةً إلى ذلك، يمر خط دومينيك بعلاقته مع زوجته السابقة، ديسّا، التي انتهت بعد وفاة ابنتهما الرضيعة وعجزهما عن تخطي هذه المأساة، وقرار دومينيك إجراء عمل جراحي كي لا ينجب مستقبلاً إثر ذلك. نستطيع، عبر المرور على هذه الأحداث، تلمس طبقات المعاناة والأسى التي تعيشها الأسرة "الملعونة" كما سيصفها دومينيك. ولمّا كان هذا السرد للأحداث من منظور دومينيك نفسه غالب الوقت، فإنه يبدو كالحامل لهذه المعاناة الطويلة.

كل ما يحيط بالعمل من تفاصيل يزيد من قتامته وتراجيديته

يبدو الصراع في المسلسل دائراً بين الرجل والتاريخ. فمن وجهة نظر دومينيك، ثمة أزمة هوية مزمنة، مردها بحثه عن هوية أبيه الحقيقية وإحساسه الدائم بفقدانه، وبأن هذه الصفحة لن تطوى ما لم ينكشف هذا اللغز. يبدو اضطراب علاقته بزوجته شبيهاً من حيث المبدأ، حين يفشل كل ما يمكن للحاضر أن يقدمه ويبهت أمام ذكرى المصيبة. 

إن الإضاءة على تاريخ العائلة وجدها المؤسس، توحي لنا بأن "اللعنة" التي يتحدث عنها دومينيك ليست سحريةً أو خارقة للطبيعة، بل تتعلّق بأساس الأسرة ذاتها وما بنيت عليه، من ذكورية الجد المفرطة وتعصبه وعدائيته، التي تتجلى في الطريقة التي يتعامل بها مع زوجته واختها وابنتها وعلاقته بالسكان الأصليين، رغم كونه وافداً من إيطاليا. أهم من ذلك، نلاحظ أن الجد ودومينيك يتشاركان إحساساً بالالتزام تجاه أخويهما، وإحساساً بفشلهما في ذلك لاحقاً. 

لا شك أن دومينيك يختلف في ذات الوقت عن جده رغم لعنة النسل هذه. وإذا ما كان الغضب يتملّك الاثنين، فإن دومينيك –تحت ضغوط إنسانٍ معاصر-يبدي ما نسميه مشكلةً في التحكم بغضبه أحياناً، لأسباب سنتحدث عنها. كما أن الفترة الزمنية الفاصلة بين حياة الجد والحفيد تجعل منهما شخصين مختلفين أيضاً من حيث العلاقة مع الجنس أو العرق، التي تبدو عند الجد عدائية ومتطرفة. ويبدو ما ورثه دومينيك، وفقا لمعطيات عصره، إحساساً زائداً بالمسؤولية تجاه من حوله وهو ما يساهم في تعقيد مشاكله، وتبدو موازنة هذا الإحساس ومعرفة لحظة التخلي جزءًا من حل مشكلته كما نرى في الحلقة الأخيرة.

إن حكاية مأساة توماس مختلفةٌ كلياً، وإذا كان دومينيك يشعر بأن العالم في صراع كاملٍ معه، فإن توماس يعيش هذا الصراع حقيقةً. وفي جوهرها، فإن الحكاية تتعلق بتخلّي أفراد ومؤسسات عن فرد وعجزها عن القيام بدورها تجاهه. فرغم أننا لا نعرف بشكلٍ مؤكد الأسباب وراء الشيزوفرينيا، إلا أننا نعلم أن البيئة المحيطة يمكن أن تشكل عاملاً مهماً في تفاقم الحالة أو تحسّنها. إن ما تعرّض له توماس، منذ الصغر، يؤكد لنا دور البيئة السلبي على تطور حالته، كما أن المسلسل يقدم -عبر شخصية توماس- إدانةً لواقع المؤسسات الصحية المعنية بشأنه وخلطها بين مفاهيم العلاج والعقاب. 

يساهم اختيار الموقع في تعزيز الطابع القاتم للمسلسل، حيث يغلب على جو القرية غير المحددة في كونيتيكت البطء ويساهم الجو العاصف بتعزيز هذا الإحساس. ويتركنا هذا أمام الأداء، وهي النقطة التي يقول عديدون إنها الأنجح والأكثر توفيقاً في المسلسل. ولننظر إلى الأمر، حين يجد أي ممثل نفسه أمام تحدٍ كلعب دور توأم، فإن ثمة ما يدعو إلى القلق. وقد يكون الخوف من عدم ظهور الاختلاف بين الشخصيتين هو ما يدفع الممثل إلى المبالغة بأداء كلٍ منهما. في I Know This Much Is True، لا يقع مارك روفالو في هذا الفخ. 

ورغم التحدي الذي يفرضه أداء دوري دومينيك وتوماس، باختلافاتهما التي تبدأ بالشكل البدني وتنتهي بتجسيد مشاكل كل منهما، فإنه ينجح نهاية الأمر في خلق شخصيتين متمايزتين ومتعبتين وتثيران التعاطف والاستجابة من المشاهد.

يشمل هذا المستوى أداء شخصيات أخرى، مثل ليزا التي تؤدي دورها روسي أودونيل، وتنجح خلال الأداء الصارم والفج أحياناً، الذي يفرضه دورها كعاملة اجتماعية، في إظهار تعاطفها مع قضية توماس ودومينيك، رغم مجابهتها للأخير أحياناً. تنجح كاثرين هان أيضاً في هذه المهمة، وتقدم عدة طبقات تميّز شخصية ديسا، كالإنهاك المزمن الذي نال منها مع دومينيك والذي يبدو رغم محاولاتها البحث عن معنىً بعد ما جرى. 

يُحسَب للعمل مأخذه على موضوع الصحة النفسية عند الرجال، ولا نقصد بذلك حكاية توماس وحسب، بل دومينيك أيضا. وثمة جهد مبذول لتجنب الكليشيهات والقوالب الكسولة التي تلجأ إليها الأعمال التلفزيونية أحياناً حين تحاول التطرق إلى الموضوع. مع ذلك، أثير النقاش حول قدرة المشاهد اليوم على تجنب الإجهاد العاطفي حين يتابع العمل. 

لا شك أن توقيت العرض يلعب دوراً هائلاً في دفع هذه النقطة، بكل ما يجري حولنا اليوم من مشاكل ميّزت عام 2020. إلا أن جانباً آخر للقضية يمكن نسبه إلى بنية العمل الدرامية، التي لا استراحات فيها على عكس ما نعتاد عليه في السلاسل التلفزيونية. وفي الحقيقة فإن هذا الخيار يمتد حتى الحلقة الأخيرة التي حالما تبدو سعيدةً قياساً إلى كل ما جرى، يفيدنا أن نعرف اختلافها عن تلك في الرواية، حيث يرث دومينيك مبلغاً كبيراً بعد معرفة هوية أبيه ويعود إلى ديسا ويتبنى ابنة صديقته جوي.

المساهمون