3 أفلام سورية... كأنها كل مراحل الثورة

25 ديسمبر 2024
من فيلم "دنيا وأميرة حلب" لماريا ظريف وأندريه كادي (IMDb)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تتناول الأفلام السورية "ماء الفضة"، "يوم أضعت ظلّي"، و"دنيا وأميرة حلب" تجارب الشعب السوري خلال الثورة، مركزة على التوق إلى الحرية والكرامة وسط الدمار.
- فيلم "ماء الفضة" يستخدم مونتاج مشاهد التقطها ناشطون وجلاّدون، مسلطًا الضوء على وحشية النظام السوري والبحث عن الناشطة سيماف بدرخان، مما يعكس تنوع الثورة.
- "يوم أضعت ظلّي" و"دنيا وأميرة حلب" يقدمان سردًا عن فقدان الإنسانية وتأثير الحرب، مع التركيز على معاناة السوريين في الريف الدمشقي وصمود الأطفال.

ثلاثة أفلام سورية أُنجزت في زمن ثورة مارس/آذار 2011، جاءت مختلفة جذرياً، في جنسها ومقارباتها الدرامية والجمالية، لكنّها تلتقي في رؤية موحّدة في العمق، مفادها أنّ التجربة المريرة للشعب السوري في 13 سنة كانت، قبل كلّ شيءٍ، رحلة حفاظ على شعلة الإنسانية وسط دمار وتنكيل وقتل وتهجير وبروباغندا شاملة. لذا، نجد أنّ الصراع الواقع في قلبها رهانُ صُور أولاً، يرمي إلى تجسيد توق السوريين إلى رفع قيم ثورة نبيلة، تسعى إلى الحرية والكرامة، وإلى وطن يَسَع الجميع، وضد توجّه النظام البائد، طامس الإنسانية بكلّ تجلّياتها، قدسية الحياة وعراقة التاريخ وقيمة الروابط الثقافية، تحت كومة من الأكاذيب، ورواية رسمية تختزل الصراع في حربٍ ضد كيانات لا تقلّ عنه وحشية، أو دفاع مزعوم عن سورية ضد مؤامرات أجنبية، بينما تُكرّس سياسته الانقسامَ، وتفرض الاستبداد.

تغطي تواريخ إنجاز هذه الأفلام كلّ مراحل الثورة تقريباً. رغم ذلك، تتصادى اليوم بالقوة نفسها، وبتكامل مع روح الاحتفاء بسقوط نظام الأسد، والمشاعر المتفائلة التي سادت إثر ذلك. ربما لأنّها تشبّثت بقِيَم لا تفنى، جعلتها تتسامى فوق قراءات ضيّقة وقصيرة النظر، تطبع عادةً زمناً سياسياً يُبدي حركية خادعة، بينما عمقه الجمود والموت بكلّ تجلّياته، وتناولاً إعلامياً تدّعي غالبيته الراهنيّةَ والإلمام بعمق الأحداث وتفاصيلها. بيد أنّ ديدنه السطحيةُ والاختزال وحجب الأساسي.

الأفلام الثلاثة: "ماء الفضة: بورتريه ذاتي لسورية" (2014) وثائقي لأسامة محمد ووئام سيماف بدرخان، و"يوم أضعت ظلّي" (2018) أول روائي لسؤدد كنعان، وفيلم التحريك "دنيا وأميرة حلب" (2022) لماريا ظريف وأندريه كادي.

يندرج "ماء الفضة" في نوع أفلام المونتاج، بحكم أنّ محمد يولِّف، في منفاه الفرنسي، مَشاهد التقطها ناشطون بهواتفهم المحمولة، وأوّلهم الشابة الكردية سيماف بدرخان، التي تواصلت معه وبعثت له فيديوهات التقطتها عن حصار حمص، قبل أنْ تختفي. ونظراً إلى أنّ البحث عن مُختفٍ يُعدّ من أهم الحوافز الدرامية للوثائقي (نتذكّر مَعلَمةَ الفرنسي إيرفي لو رو La Reprise، المُنجزة عام 1996)، صار مُحرّك البحث عن سيماف بدرخان، في الصُور التي يتوصّل بها أسامة، دافعاً ينأى به عن شبهة استغلال صُور لم يلتقطها بنفسه. احتمال أنّ سيماف بدرخان كانت هناك تُشاهد ما يقع، يجيب نوعاً ما عن سؤالها في بداية الفيلم: "أيّ صُور كنتَ ستلتقطها لو بقيت في حمص؟".

أصبحت رؤية أسامة محمد شهادة مرادفة لعينيّ وئام سيماف بدرخان. عظمة "ماء الفضة" تكمن في أنّ اختياراته الجمالية تقع في ملتقى العناصر الأساسية الثلاثة التي تُحدّد الرؤية، وتصنع جماليات السينما: المسافة مع ما يُصوَّر، التي دفعت المخرج إلى إدراج فيديوهات التقطها الجلاّدون أنفسهم، ليُبرز مقدار الوحشية اللامحتملة لتصرّفاتهم؛ والترتيب بين اللقطات، الذي يصنع لها معنى أبلغ من مجرّد متواليات فيديوهات عن أحداث الثورة السورية، ويعطيها إيقاعاً متناغماً (اللافت للانتباه أنّ وئام أحد مرادفات التناغم، كأنّ الفتاة الكردية التي منحت الفيلم عنوانه "سيماف" أي "ماء الفضة"، تُجسّد أيضاً روح الفيلم)؛ ثم وجهة النظر المذكورة أعلاه، وكيف أفتت اختيارات مهمّة، كرفض اقتراح تقني المونتاج بأنْ يحوّل النسب الباعية للفيديوهات، الملتقطة كلّها بـ16:9، بحثاً عن الانسجام، وتفضيل محمد الاحتفاظ بنسب باعية مختلفة، لأنّها تعكس تنوّع الثورة وتعدّد الأصوات المشاركة فيها. إضافة إلى حمولة التعليق الشاعري للرسائل، الذي يخلق تفاعلاً خاصاً مع الصُور، يجعل ما يقع بينها وفي المساحات الفاصلة، أو ما يسميه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز "الفجوات" (Interstices)، أهم من مضمونها نفسه.

في "يوم أضعت ظلّي" (2018)، تنحو سؤدد كعدان إلى تكثيف وجع الحاضر في نفوس السوريين، بصورة بلاغية مُعبّرة: فقدان الظلّ. تحت نظر سناء، الأمّ الباحثة عن قارورة غاز لتحضير وجبة دافئة لابنها، هناك أجسادٌ من دون ظلال، تجوب مظاهر الخراب في الريف الدمشقي المحاصر مطلع 2012، ليست سوى استعارة عن تيهان وتشبّث بآخر مظاهر الإنسانية المنفلتة، كما ينفصل الظلّ عن البدن، جرّاء المعاناة من الاعتقال والتعذيب، كما حدث مع جلال، أو معاينة الموت ومظاهره من قبور مجهولة في حالة سناء وريم (شقيقة جلال).

تقول كعدان إنّها استلهمت فكرة الظلال من الظاهرة العلمية المعروفة بـ"الظلال النووية"، التي حدثت عند ضرب هيروشيما بالقنبلة النووية، في الحرب العالمية الثانية، فأودت بأبدان اليابانيين، وأبقت على آثارهم في شوارع المدينة المُدمّرة على شكل ظلال، تشهد على هول ما جرى. ثم التساؤل: أين تذهب ظلال الشخصيات حين تنفصل عن أبدانها؟ هل تتكاثف لتصنع ظلاً كبيراً وأكثر قتامة، يخيم على النفوس؟ نتذكّر تساؤل رجل الأعمال في "أيام مثالية" (2023) لفيم فندرز: "هل يصبح ظلاّن متداخلان أكثر قتامة؟". أمْ أنّ مفتاح التساؤل يكمن في السلوك المغامر لجلال، وقول سناء لابنها "لا تخف"، بينما تطرق قوات شرطة النظام باب شقّتها، مباشرة بعد أنّ ضيعتها في المشهد الأخير؟ كأنّ الشخصيات، بفقدانها الظلّ، تعانق أخيراً شرط الثورة المطمئنة إلى أفقها المثالي على المدى الطويل (مهما بدت المآلات قاتمة والانكسارات قاسية على المدى القريب). جيل دولوز وصف هذا المعطى بـ"الصيرورة الثورية للشعوب"، ليميّزه عن مستقبل الثورات في التاريخ: "مصير الإنسان، في حالات الاستبداد والقمع، الصيرورة الثورية عملياً، لأنْ لا خيار آخر يوجد أمامه. عندما يقُال لنا بعد ذلك: "آه، اتّضح أنّ أمور الثورة آلت إلى الأسوأ"، وما إلى ذلك من كلام، فنحن لا نتحدّث عن الشيء نفسه. يبدو الأمر كما لو كنا نتحدّث لغتين مختلفتين تماماً: مستقبل التاريخ والصيرورة الحالية للناس ليسا الشيء نفسه" (Abecedaire).

في "دنيا وأميرة حلب"، تنشأ دنيا (6 سنوات) في حلب، ضمن أسرة متماسكة ومتحابّة. تفقد والدتها، ويُسجن والدها، وتنشب الحرب في وطنها، فتُجبَر على مغادرة المدينة مع جدّيها، وفي جيبها بضع حبّات بركة. لا يشير حكي الفيلم إلى الثورة السورية وتفاصيلها بصراحة، كما أنّ جنس فيلم التحريك يضع أصلاً مسافة مع الواقع. لكنّ المخرجين وكاتبة السيناريو (ماريا ظريف) يُركّزان ويُكثّفان تأثير أجواء الحرب المندلعة في حلب على معيش الطفلة، التي ظلّت تنعم بقدر من الأمان والحياة الرغدة مع جدّيها، رغم يُتمها المبكر، والاعتقال التعسفي لوالدها بسبب التزامه السياسي.

الفيلم قصيدة حسّية وبصرية بالغة الجمال، تلتقط قدرة الصمود والانبعاث على تجاوز المعوقات باستحضار ثقافة الأصل ومكوّناتها (تراث المطبخ السوري، الموسيقى العربية والحلبية، إلخ) للَمّ شمل العائلة والأقارب والجيران حول قِيَم مشتركة تنير طريقهم الصعبة إلى المنفى واللجوء. ولعلّ المفعول السحري لحبّة البركة، التي تمتشقها دنيا في كلّ مرة تنغلق أمامها الطريق، مُستحضرة رقصة عشتار، أو ذكر والدتها/أميرة حلب، أو طائراً سحرياً، ليس في العمق سوى دعوة من المخرجة ظريف إلى إعادة الوصل مع أصالة ثقافة غنية، وتاريخ عريق، أريد لهما أنْ يُطمَسا تحت ركام النسيان والتنكّر. وأبرز مثل على ذلك كامنٌ في شخصيتي "آي" و"شوم": تمثالان ملتصقان (مستوحيان من "التماثيل ذات العيون الكبيرة"، التي وُجدت في "معبد تل براك" شمالي شرقي سورية، ويعود تاريخها إلى عام 3000 قبل الميلاد) يخوضان محن المنفى مع دنيا، في استعارة للتاريخ القديم للشرق الأوسط، والاحتفاء بعراقة قِيَم التسامح والسلام التي يحملها.

سينما ودراما
التحديثات الحية

تقول ماريا ظريف، في حوار مع إذاعة "فرانس أنفو" (1 فبراير/شباط 2023): "عندما بدأت الحرب، كانت هناك صُور قاسية عدّة متداولة في وسائل الإعلام: صور أطفال مُصابين أو قتلى، وأطفال يغرقون في معبر البحر الأبيض المتوسط، وعائلات تتشرّد في مخيمات اللاجئين. هزّني ذلك كلّه حتى النخاع، لأنّي فكرت في البداية بصدمة الأطفال الآخرين في العالم، الذين شاهدوا هذه الصُور. ثم قلت في نفسي إنّ أولئك الذين عاشوا للأسف هذه الحرب، أو قاسوا في المنفى، أو فقدوا حياتهم، يستحقّون صُوراً تليق بهم. صُور أطفالٍ مفعمة بالشجاعة والصمود والفرح والحماسة. كان هذا الفيلم، قبل كلّ شيء، تكريماً لهؤلاء الأطفال".

تصريحٌ يوضح أنْ حتى فيلم التحريك، الذي يصنع صُوره الخاصة النابضة بالخيال الجامح، يقع في قلب الصراع والرهان حول الصُور وسجلاتها، وأساليب مقاربتها وتوظيفها وانعكاساتها على من يُشاهدها.

المساهمون