الثورة السورية وأفلامها... صدقٌ عجز عن استشراف المستقبل

25 ديسمبر 2024
من "ماء الفضة: بورتريه ذاتي لسوريا" (2014) لأسامة محمد ووئام سيماف بدرخان (IMDb)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت السينما السورية تطورًا ملحوظًا منذ 2011، مع بروز الأفلام الوثائقية بسبب سهولة إنتاجها مقارنة بالأفلام الروائية التي تتطلب إنتاجًا معقدًا وحرية إبداعية.
- تناولت الأفلام الروائية مثل "سُلّم إلى دمشق" و"يوم أضعت ظلّي" قضايا الثورة السورية بطرق مختلفة، بينما حاولت الوثائقيات تقديم سرد واقعي لأهوال الحرب، لكنها لم توضح تعقيدات الوضع السوري بشكل كامل.
- لم تستغل الأفلام الحرية النسبية بعد الثورة بشكل كافٍ، حيث لم تتجاوز حدود الحماسة الثورية ولم تقدم رؤية واضحة لمستقبل سوريا، بل أصبحت أرشيفات للذكريات.

كُسر حاجز التردّد والخوف والصمت، وإنْ لفترة وجيزة. لعلّ الإسهام الأكبر أسدته الأفلام السورية المصنوعة في نحو عقدٍ، منذ اندلاع الثورة في 18 مارس/آذار 2011، وحتى سقوط النظام ليلة 8 ـ 9 ديسمبر/كانون الأول 2024. بخلاف هذا، يتوقّف راصد أغلب الأفلام المُنجزة أمام ملاحظات وسمات، أبرزها أنّه، رغم انقضاء سنوات طويلة، كان التدفّق الغزير والأهم والأعمق والأصيل للوثائقيّات، مقارنة بأنواع أخرى. للأمر وجهات، خاصة في ظلّ ظروف أدّت إلى تعذّر تنفيذ أفلام روائية، تتطلّب إنتاجاً وتأليفاً وتصويراً وتوزيعاً، وحرية يصعب توفّرها أصلاً. فنّياً، تصعب مواكبة الأحداث الكبرى عند حصولها بعمق وأصالة. فالأفضل انتظار مرور الأحداث، وهدوء وتيرتها، فتنجلي الصورة، وتتوضّح الحقائق. لكنّ السنوات طالت، ولم يُنجز المُفترض به أنْ يُنجز، أو الضروري. لذا، لم تبرز في السنوات الماضية إلاّ أفلام روائية متفاوتة فنّياً وموضوعاً، واللافت للانتباه أنّ بعضها لمخرجات.

ربما يكون "سُلّم إلى دمشق" (2013) لمحمد ملص أول الأفلام الروائية التي تناولت باستحياء ما حدث، تلميحاً لا تصريحاً. فملص تناول شأناً عاماً وهَمّاً سياسياً داخلياً، من دون تفاصيل ومباشرة، فلا معارك ولا تحليل صراع سياسي، بل انعكاسات ما يحدث على البشر، وطرح لتصوّرات عن أمل وحرية ومستقبل يحلم بها كلّ سوري.

في "يوم أضعت ظلّي" (2018)، حاولت سؤدد كعدان القبض على الروح الهاربة للسوريّ، التي اختفت، ولم يعد من انعكاس لظلّها. للاقتراب من تلك الروح، وعلى عكس ملص، اختارت كعدان بدايات الثورة (2011 ـ 2012) زمناً لأحداث فيلمها، من دون التعمّق كثيراً في رصد التطوّرات، واختلاط الأمور وتعقّدها. لم تتورّط في أيّ انحياز، مُفضّلة الحكي عن هواجس ومخاوف ورؤى ذاتية، عبر حالة نفسية للشخصية الرئيسية، ومعاناتها، قبل الفرار من سورية. هذا تناولته المخرجة في آخر فيلمٍ لها، "نزوح" (2022)، المعنيّ بتبعات الحرب، والأوضاع غير المستقرّة، وانعدام الأفق، عبر رغبة حارقة في مغادرة البلد، وإنْ أفضى الأمر إلى اللجوء.

يُحسب لغايا جيجي جرأتها في "قماشتي المفضّلة" (2018)، غير المُقتصر على مشاهد بعينها، إذ امتدّت إلى محاولة التعبير عن ضحية شابّة من ضحايا الأحداث، ومعاناتها الرهيبة، حسّياً وعاطفياً وجنسياً واجتماعياً وأسرياً، إلى رغبتها الملحّة في العيش كأيّ فتاة، من دون الاكتراث بغليان الشارع والرصاص والقتل المجاني. عزلتها وانفصالها، الناجمان جزئيّاً من الأحداث، أبطلا تفاعلها مع خارج ذاتها.

السهولة والسرعة النسبيّان في التصوير بهواتف وكاميرات محمولة، وقلّة التكاليف، ومتطلّبات الإنتاج، وإمكانية إنجاز مراحل فنية عدّة، وصولاً إلى سهولة العرض، إضافةً إلى الطبيعة نفسها للوثائقي، هذا كلّه حَسَم تفوّق الوثائقيات وكثرتها في مقابل الروائي. لكنْ، لهذا تبعات متمثّلة في التدفّق الهائل لأفلامٍ، خلطها جليٌّ مع الوثائقي والريبورتاج والتقرير. لافتٌ للانتباه في أغلب الوثائقيات المقبولة تفاوت المستوى الناجم عن أمور كثيرة: السرعة والاندفاع والحماسة والتشوّش وغلبة المشاعر، ما أدّى إلى انتفاء التماسك البنائي والتناغم ووحدة الموضوع. والافتقار إلى خيط أو رؤية واضحة تتمحور حولها الأحداث والسرد. طبعاً، هناك عدم اهتمام واعتناء بالجوانب التقنية والجماليات البصرية، إذ تصوّر كثيرون أنّ مجرّد توفّر مادة نادرة أو صُور غير مُستهلكة يمكنه صنع أفلام متميزة بفضلها. أمّا الأفلام التي اختلط فيها الوعي الذاتي بالهمّ الشخصي، وكان الاجتماعي ـ السياسي في قلبها، فكانت أكثر قبولاً وجدية وصدقية وبقاء في الذاكرة.

الأكثر فنّية وحرفية، مع محاولة تجديد في الشكل والمضمون، وربما من أول وأبرز الأفلام التي فتحت الطريق أمام التالي عليها، "ماء الفضة: بورتريه ذاتي لسوريا" (2014) لأسامة محمد ووئام سيماف بدرخان، الذي تناول أحداث حمص آنذاك، ومفهوم المنفى والهجرة واللجوء، وربما تنبّأ بمصير ملايين السوريين. المثير أنّ من حمص تحديداً خرجت وثائقيات عدّة لافتة للانتباه، أضاءت على كثير مما حدث فيها لسنوات.

سينما ودراما
التحديثات الحية

بخلاف "ماء الفضة"، انطوى موضوع "العودة إلى حمص" (2013) لطلال ديركي على مُغاير ومختلف عن أفلام ما بعد الثورة. وأحدث الوثائقيات الحمصية، "ذاكرة مليئة بالأشباح" (2024) لأنس زواهري، وفيه تظهر المدينة حديثاً ببناياتها وأهلها، بعد كل هذه السنوات، وما تركته الحرب وطبعته المدينة بشوارعها الشبحية من ذكريات مؤلمة، جعلتهم يفقدون الأمل بكلّ أفق ومستقبل وحرية منشودة.

لحلب أيضاً جانبٌ من وثائقيات مهمة، أُنجزت في مراحل مختلفة بعد الثورة، وتركت بصمتها. أهمها "آخر الرجال في حلب" (2017) لفراس فياض، و"من أجل سما" (2019) لوعد الخطيب والبريطاني إدوارد واتس. ورغم أنّ الأول تناول أفراداً في الحياة العامة وأصحاب الخوذ البيضاء ودورهم، والثاني قضية شخصية وولادة طفلة (سما)، يرصد الفيلمان أهوال الحياة في حلب، بسرد أمين لقصة حصار المدينة ومأساتها ومعاناة أهلها.

بخلاف تسليط الضوء على المدينتين، لم تنجز تقريباً إلاّ أفلام عادية عن دمشق وغيرها، ما يطرح أسئلة كثيرة تتعلّق بمدى تعقّد وصعوبة الأوضاع، والتركيبة السياسية والسكانية والحزبية والدينية في البلد. 

إلى جانب ما حدث في المدن، نقلت أفلامٌ أكثر من صورة ووجهة نظر، دفعت إلى الإرباك والحيرة، خاصة بعد انقلاب التوجّه من رصد بدايات الثورة، والفرحة بها والتفاعل معها، ثم إظهار بطش النظام ورجاله وأعوانه، إلى مراحل حمل السلاح، والقتال شبه الدولي، والحرب الأهلية المُعقّدة التي أخرجت أجمل بلدان المنطقة من التاريخ الحديث.

إجمالاً، تركت هذه الأفلام مشاهديها في ضبابية الوضع السوري وتعقّده وتشابكه، ولم يوضح أغلبها حقيقة الأمور بشفافية وتبسيط وتفكيك لمدى عمق الانقسام السياسي والديني والمجتمعي، وحضور قوى إقليمية ودولية، ودورها في تسريع التحوّلات والتطوّرات المُهدِّدة استقرارَ البلد، وتحويله إلى خرائب أشعرت أهله برغبة مُلحة في الفرار.

الرغبة المجنونة والمشروعة، باعتبارها حقاً إنسانياً، في الفرار من هذا الجحيم صاحبتها فورة أخرى في الوثائقيات، الراصدة مُعاناة الهروب واللجوء والشتات السوري، ما لفت نظر العالم إلى أحوال اللاجئين السوريين وغيرهم. زاد الطلب على أفلام اللجوء التي باتت فقرة شبه ثابتة في المهرجانات الدولية. تدريجياً، نُسيت الثورة وبواعثها ودوافعها ومطالبها، إلى أن استيقظ العالم مُجدّداً، لكنْ على ما حدث في سورية مع سقوط آل الأسد.

إجمالاً، لم تُستغل الحرية النسبية المُتاحة للسينمائيين في أعقاب الثورة كما ينبغي، إذ لم يتجاوز الفعل حدود الحماسة المُفرطة في ثوريته وتطلعاته، والجرأة على المحظور، والتنفيس المؤقّت عن غضب ضد نظام قمعي. الآن، مع تذكّر أغلب الأعمال، يُلاحظ أنّها، رغم صدقها وأهميتها، وبعيداً عن فنياتها، عجزت عن استشراف المستقبل، أو التنبؤ بمستقبل لسورية حرة وموحّدة وديمقراطية، إلى خطوات تحقيق هذا وكيفيته. ناهيك عن تخيّل آلية إسقاط الحاكم الديكتاتور وتبعاتها. إذ كانت الرؤية تشاؤمية، رغم الثورة والأمل. عليه، فإنّ أغلب الأفلام أرشيفات صُور ووقائع، وتسجيلات لذكريات ولحظات فرح وحزن وحرية منقضية. لكن، حتى اللحظة، لم تُروَ قصة الصعود الهائل والتدهور الدرامي والسقوط المُدوي للثورة والحرب، ولاستشراف آفاق المستقبل السوري.

المساهمون