تعددت الأسباب التي منحت الشيخ يوسف المنيلاوي مكانته الكبيرة بين أئمة الغناء في مصر، أواخر القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين. تسجيلات الرجل تكشف عن صوت آسر مطواع، وعن خبرة كبيرة بأصول ذلك الغناء الصعب المعقد المطرب.
في سيرته الذاتية كثير مما يُعجب ويُدهش: كان صاحب الأجر الأعلى بين كبار مطربي عصره، ومع بدء تعاونه مع شركات الأسطوانات، صارت تسجيلاته هي الأغلى، وأعجب من ذلك أن سعر أسطواناته ظل متفوقاً على كل المطربين لأكثر من 20 عاماً بعد رحيله في يوليو/ تموز عام 1911، حتى بعد ظهور أم كلثوم. أوفده الخديوي عباس حلمي الثاني إلى الأستانة مغنياً بين يدي السلطان عبد الحميد، الذي انبهر بصوته، فقرر منحه الوسام المجيدي، أحد أعلى الأوسمة في الدولة العثمانية.
لكن أهم الدروس التي يمنحها المنيلاوي بشخصه وبتسجيلاته أنه يعطي صورة صادقة لما بلغه فن الغناء من رفعة وارتقاء في عصر ما قبل أم كلثوم وعبد الوهاب، بل في عصر ما قبل سيد درويش. فالرجل كان بحق وريثاً شرعياً لمكانة عبده الحمولي، لكنه ربما زاد عليه بمستوى ثرائه، واستغنائه التام عن أن يكون الغناء وسيلة لكسب العيش.
وبهذا الاستغناء، استطاع أن يجني ثروة كبيرة في كل ليلة يغني فيها، فهو مطرب الحكام والأمراء والكبراء والأثرياء والأعيان، وهو يطلب الأجر الأعلى تقديراً لفنه، فرسخ بشخصيته صورة مغايرة لما ساد في الأذهان عن الفن والفنانين. وبالطبع، فإنه لم يكن ليقدر على هذا لولا موهبته الكبيرة، وصوته الأخاذ، وإصراره على أداء النصوص الرفيعة من عيون القصائد الفصيحة، أو نفائس الأدوار العامية.
تكاد تسجيلات المنيلاوي أن تنسف تلك الصورة المشوهة التي ترسخت عبر عقود، وتكررت في كتابات كثير من النقاد والمؤرخين، وتظهر الغناء - كل الغناء - قبل أم كلثوم وعبد الوهاب باعتباره فناً مسفاً، يعتمد على كلمات رديئة، تصل في بعض الأحيان إلى حد "الإباحية"، مع الاستدلال ببعض التسجيلات التي حملت هذا النمط المتردي. يصرّ كثير ممن يتصدى للكتابة الموسيقية على تحطيم التاريخ الفني الذي يسبق الشخصية محل الكتابة.
ووفق مذهب هؤلاء، فإن سيد درويش لا ينال مكانته ولا تتحقق قيمته إلا إذا كانت الموسيقى قبله في حالة موت سريري، لا خيال فيها ولا تعبير، تهيمن عليها الأساليب التركية. ثم جاء الشيخ سيد فمنحها التعبير والخيال وحررها من التتريك المزعوم. وتبعاً لهذا المذهب، لا يستحق عبد الوهاب قيمته، ولا تستأهل أم كلثوم موقعها، إلا بالحط من الغناء السائد قبلهما، ووصفه بكل نقيصه، وتصويره بأنه كان غناء حانات وعربدة وإباحية.
والحقيقة أن موجة ما سُمّي بالكلمات الهابطة لم تظهر إلا بعد عام 1914، مع اشتعال الحرب العالمية الأولى، ولم تدم في عنفوانها كثيراً. ونعم، كان لعبد الوهاب وأم كلثوم دور في الارتقاء بالكلمة المغناة، ومع ارتفاع شأنهما، وصعودهما السريع، انتهت هذه الموجة، التي لم تشغل بال سيد درويش كثيراً. لكن هذا التقدير يختلف عن الصورة الزائفة التي أظهرت الغناء كله وكأنه من نوع "ارخي الستارة اللي في ريحنا"، وهي الطقطوفة التي يُضرب بها المثل في كل كتابات مذهب التشويه التاريخي.
وإذا كان من المسلّم به أن الغناء العربي يُقدم من خلال قوالب كلاسيكية معروفة، فإن الحقيقة الفنية تقطع بأن معظم هذه القوالب لم تكن تقبل بتحمل أنماط الغناء المبتذل والإباحي، فلا القصيدة ولا الدور ولا الموشح ولا الموال تطيق هذا اللون، وفقط، كانت الطقطوقة هي القالب المناسب لحمل تلك الأغاني التي وصفت بـ"الخليعة". لكن حتى مع انتشار هذه الطقاطيق، استمر المطربون الكبار في تقديم الغناء بمستواه الرفيع.
وتمثل تسجيلات الشيخ يوسف المنيلاوي شواهد عظمى على رقي الغناء وارتفاع شأنه. انحاز الرجل إلى القصائد الفصيحة الرصينة، والأدوار القوية المسبوكة نصاً ولحناً. وفي مسرد غنائه الفصيح تطالعنا قصائد: "أحبك يا سلمى من غير ريبة" للحسين بن مطير، و"أقصدت زينب قلبي" لابن رهيمة، و"ألا في سبيل الله ما حل بي منك" لابن أبي عيينة، و"فتكات لحظك أم سيوف أبيك" لابن هانئ الأندلسي، و"لا جزى الله دمع عيني خيراً" للعباس بن الأحنف، و"فيا مهجتي ذوبي جوى" لابن الفارض، و"أكذب نفسي عنك في كل ما أرى" لأبي بكر بن النطاح، وغيرها لأعلام الشعراء في حقب تاريخية مختلفة.
وغنى المنيلاوي كثيراً من الأدوار المصرية التي كتبها أعلام شهيرون، من الذين ترقى عاميتهم إلى مراتب الفصحى، مثل دور: "الحلو لما انعطف.. أخجل جميع الغصون، والخد آه ما انقطف.. ورده بغير العيون"، أو دور "لسان الدمع أفصح من بياني"، وكلاهما لإسماعيل باشا صبري، أو "دور يحرم علي أنظر غيرك" لعائشة التيمورية، و"دور الله يصون دولة حسنك" للشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية. كما تغنى بعدد كبير من الأدوار التي صاغها مؤلف الأدوار الأشهر محمد الدرويش، ومنها: "بانتظارك إيه يفيدك"، و"الوجه مثل البدر تمام"، و"قد ما أحبك زعلان منك"، و"جددي يا نفس حظك"، وغيرها.
وقد يرد إلى الذهن أن الاهتمام بهذا المستوى الراقي الذي يقدمه الشيخ يوسف المنيلاوي كان مقتصراً على نخبة المجتمع من المثقفين والأعيان، لكن حِرص شركات الأسطوانات على تسجيل غناء الشيخ، وارتفاع نسب مبيعاته، يعد دليلاً على أن هذا الغناء الرفيع كان يحظى بشعبية كبيرة، وشركات الأسطوانات لم تكن تهدف إلا للربح، والربح كان يتحدد وفقاً لقوانين العرض والطلب، التي وضعت تسجيلات المنيلاوي في أول الترتيب.
بدأت صلة الشيخ المنيلاوي بشركات الأسطوانات عام 1903، أي قبيل رحيله بثماني سنوات، وحرصت الشركات الكبيرة على الفوز بصوته، بعد الإقبال الكبير على أسطواناته في ربوع مصر والبلاد العربية والمشرقية، وكانت شركة بيكا الألمانية أول شركة سجلت للشيخ. وفي خطوة دالة، اختارت "بيكا" لأسطوانات المنيلاوي ملصقاً خاصاً بعنوان "سمع الملوك"، وربما كان هذا العنوان سبباً لظن بعض المعاصرين في أن القصائد الفصيحة والأدوار الممتازة اقتصرت على نخبة ضيقة. وبعد شركة بيكا، تعاون الشيخ كثيراً مع شركة غرامافون، وكانت أسطواناته تباع في محلات أوروزدي بك في القاهرة، بأعلى سعر تباع به أسطوانة مطرب.
في كثير من الأحيان، يقع النقد الموسيقي المعاصر أسيراً للأوهام التي لا تعدو أن تكون مجرد ألفاظ وعبارات لم تُختبر، وليس لها وجود إلا في أذهان من يتناقلونها، وكأنها مسلمات لا تقبل الجدل. ومن تلك الأوهام عبارة تجزم بأن "العملة المزيفة تطرد العملة الأصلية".
يتعامل بعض النقاد والمؤرخين الموسيقيين مع هذه العبارة وكأنها حتمية قدرية أو قانون فيزيائي، يتمثل جانبه التطبيقي في أن وجود الأغنيات المسفة أو حتى "الإباحية"، يعني حتماً اختفاء كل أشكال الغناء الجيد من القصائد الفصيحة والأدوار الطربية، لكن حقائق التسجيلات في عمومها، وتسجيلات الشيخ يوسف المنيلاوي تحديداً، واستمرارها في قائمة "الأعلى مبيعا" نحو 20 سنة بعد رحيله، تؤكد أن مفهوم "التجاور" أقرب إلى المنطق من مفهوم "الطرد"، وأنه لا تناقض في إقبال قطاعات جماهيرية على ما يُسمى بالأسطوانات الخليعة، وبين الانتشار الواسع للقصائد والأدوار. المزاج الشعبي يموج بالتنوع والاختلاف.
يقول الراوي إن شعبية الشيخ يوسف المنيلاوي بلغت حداً استثنائياً، فارتفع أجره إلى مئة جنيه ذهبي في الليلة. وكادت الجماهير تُفتن بأدائه للدور الشهير "البلبل"، الذي نظمه أحمد عاشور ولحنه الشيخ إبراهيم القباني، أحد أساطين التلحين في ذلك العصر، وكان الشيخ يوسف يصر على زيادة أجره عشرين جنيهاً ذهبياً، إذا كان الحفل سيتضمن غناءه لهذا الدور.
وتقول كلماته: "البلبل جاني وقالي.. اسمح بوصلك يا خلي.. قلتله ابعد عني.. البلبل على الحبيب زعلان.. ياما أنت ظالم.. والقلب مشغول بالمحبة.. ولا أنت عالم.. ليه كده زعلان.. أنا من غرام محبوبى.. طول الليل سهران.. من غرامك عاشق جمالك.. البلبل ع الحبيب فرحان.. ليه ياحمام بتنوح.. فكرتني بالحبايب.. يا هل ترى نرجع الأوطان.. ولا نعيش العمر غرايب".
يُنسب الشيخ يوسف المنيلاوي إلى جزيرة منيل الروضة التي يحتضنها نيل القاهرة، حيث ولد عام 1850. أراد والده أن يهبه للعلم الشرعي، وألحقه بالأزهر آملاً أن يكون أحد علمائه، لكن الفتى كان مشغولاً بفنون الإنشاد، والتمرس على أصول الطرب، معتمداً على صوت من أجمل ما سمع هواة الغناء والطرب.
يصف شيخ الموسيقيين إبراهيم شفيق، فن الشيخ يوسف المنيلاوي، فيقول: "امتاز بين أقرانه - وما يزال صبياً - برخامة الصوت وعذوبته ونقاء الحنجرة وصفائها، فلما أحس ذلك من نفسه اشتهى الغناء، وتجشم فيه حملاً ثقيلاً، كان نصف غنائه إلهاماً ونصفه تعليماً، وكلا النصفين كانا آية المعجزات في الفن، لأن الإلهام من معجزات السماء، والعلم من معجزات الأرض".