والآن دور عادل إمام: غياب عادي أم قرار سلطةٍ؟

21 سبتمبر 2022
ميرفت أمين وعادل إمام ترويجاً لـ"مرجان أحمد مرجان" عام 2007 (عمرو مراغي/فرانس برس)
+ الخط -

 

واضحٌ أنّ روّاد قاعات النمائم، الواقعية والافتراضية والإعلامية، مُصابون بملل التنمّر والاستهزاء من ميرفت أمين، واجدين في عادل إمام، وغيابه عن التمثيل، مادة لأقوالٍ غير خارجةٍ من معناها الأصلي: النميمة. أو في أحسن الأحوال: ثرثرة بلهاء، لكنّها مؤذية.

هؤلاء غير راضين عن إظهار ميرفت أمين شيخوختها في عزاء صديقها المخرج علي عبد الخالق (5 سبتمبر/أيلول 2022). بعضهم يُحيل ملامح تقدّمها الطبيعي في العمر إلى لعنة تاريخٍ فنّي لها، فيقولون إنّها تدفع الآن ثمن ارتكابها معصية الجمال والأنوثة، في تمثيلٍ يعتبره هذا البعض مُخالفاً لتفكير أو تقليد أو شرعٍ. هؤلاء وأشباههم يجدون في عزلة عادل إمام ما يُغذّي جهلهم الفاقع، وسلوكهم العفن، وتفكيرهم الضحل، فيشنّون حملاتٍ باسم "حقّ المعرفة"، والمعرفة هذه تعني إعلان سبب انسحابه من المشهد الفني المصري، بينما هم/هنّ أنفسهم يرفضون "حقّ المعرفة"، الأهمّ والأصلي، فيُحاربون كلّ فكر وفنٍّ وثقافة وعلمٍ وجمالٍ ووعيّ ونقاشٍ وحوارٍ، لما في هذا كلّه من إرباكٍ لمواقع يظنّون أنّها سلطوية، ولعلّهم بهذا صائبون، لكنّهم غير قادرين على تعزيزها في نفوس أناسٍ وعقولهم وأرواحهم، ممن يريدون المعرفة الأهمّ والأصليّة.

الأسوأ كامنٌ في سلوك إعلامي ـ صحافي، يقتات من فتاتٍ يُرمى لأصحاب سلوكٍ كهذا من أسياد سلطةٍ حاكمةٍ باسم العسكر، يتمثّل في الترويج لخبرٍ غير مؤكّدة صِحّته إطلاقاً، وفي بثّ كلامٍ فارغ من أيّ مُفيد. سلوك ينتشي بثرثرة تُهين المهنة، إنْ تكن هناك مهنةٌ أصلاً، وتُثير بلبلةً في وسطٍ شعبيّ، يتوق إلى أخبارٍ تُسلّيه في زمنٍ الخراب الكبير. سلوك يتماثل ورغبة تلك السلطة في إثارة بلبلةٍ كهذه، لتغطية أفعالٍ لها تصنع هذا الخراب الكبير.

لا أهمية إطلاقاً في معرفة سبب غياب عادل إمام منذ أشهرٍ أو أعوامٍ. مرضٌ (ألزهايمر، كما يتردّد من دون تأكيدٍ واضح) أو صمتٌ أو رغبةٌ في سكينة وهدوء وعزلة، لمزيدٍ من تأمّل، أو لاستراحةٍ مطلوبة: هذه كلّها تفاصيل جانبية، لعادل إمام وحده حقّ كشفها أو عدمه. المرض، وهذا طبيعي أيضاً كالتقدّم في العمر، يحول وحده دون إعلان إمام نفسه سبب انسحابه، ما يدفع قريباً أو مديرَ أعمال أو ملحقاً صحافياً/إعلامياً أو ناطقاً باسمه إلى قول السبب، إنْ تكن هناك رغبةٌ في ذلك. رغم هذا، يُفسَّر سلوك محبّين/مُحبّات، لا جماعة النمائم والتنمّر والاستهزاء، إزاء غياب من يُحبّون، بأنّه حاجة انفعالية إلى معرفة أخبار من يعشقون. هذا حقٌّ لهم/لهنّ.

يُشبه هذا إمعان عائلة الممثل في نفيٍ من دون تأكيد، وفي تكرار جملةٍ واحدة (إنّه بصحّة جيّدة) لن تُفيد بشيءٍ، بقدر ما تؤجّج شكوكاً وتساؤلات. للعائلة حقّ في عدم البوح، كما لعادل إمام حقّ في عدم الظهور، في عملٍ أو مناسبةٍ أو جولةٍ في شارع أمام الملأ (إنْ لم يكن هناك مرضٌ يحول دون ذلك). هذا يعكس ارتباكاً إزاء حالةٍ غير واضحةٍ بالنسبة إلى عشّاق عادل إمام، الذين/اللواتي يتابعونه عملاً تلو آخر، ويرغبون في الاطّلاع على أخباره وأحواله وتصرّفاته وتصريحاته وحواراته. هذا لا علاقة له بقراءة نقدية لتلك الأعمال.

المسألة غير محسومة. لكلّ جانب حقٌّ، ولكلّ حقّ نقيضه، والنقيض حقّ أيضاً. الانسحاب والعزلة من دون إعلان السبب، تُقابلهما رغبة جمهورٍ في معرفة السبب. يحصل هذا في الغرب أيضاً. نجوم/نجمات يُدركون تماماً هذا الأمر. يعيشون فيه سنين مديدة، وينزعجون أحياناً من سطوة الجمهور على حياةٍ حميمة وخاصة. يُشرعون الأبواب على يومياتهم، وعند دخول نسمةٍ، غير راضين بها، من نافذةٍ، يغضبون ويلعنون ويشتمون، ثم يستعيدون تلك العلاقة الملتبسة بجمهورهم، فينفتحون كلّياً على إعلامٍ مختص وكاميرات مُشعّة، و"يرتاحون" لتدخّلات في الحميميّ غير منتهية.

هذا غير شموليّ. نجوم/نجمات، عرب وأجانب، يُتقنون فنّ الانسحاب والعزلة بصمتٍ ورويّة، من دون إصدار بيانٍ أو قول تصريحٍ، غالباً، والجمهور يعتاد عزلتهم/انسحابهم من دون ضجيج، أحياناً. وسائل التواصل الاجتماعي، أي الإعلام البديل، الذي يُشوِّه المهنة وحِرفيّتها وأخلاقياتها وقواعدها، تحتاج إلى "أي شيءٍ" لرفع نسبة المتابعة. "أي شيء" من دون استثناء، ومن دون إثباتات، ومن دون احترامٍ للمهنة وللمُتابِع/المُتابِعة، ولمن تجعله تلك الوسائل هدفاً لابتذالاتها وتزويرها وثرثراتها: "في الإنترنت، للجميع رأي"، يكتب أليساندرو غانّا في "صوفيا لورين، قوّة حلم" (ترجمة أورِلْيان تْرينو، منشورات "غْرونِلّ"، 2014، ص 60). يُضيف، بعد قوله إنّ هؤلاء الجميع يُصبحون خبراء في السينما والسيناريو والإضاءة وموهبة الممثل وحرفيته، أنّ "الجميع يتحدّثون عن كلّ شيءٍ، وعن كلّ الناس". يُضاف إلى وسائل التواصل، وغالبية الإعلام ومعظم الصحافة، روّاد قاعات النمائم، وبينهم/بينهنّ من لديه مواعظ أخلاقية، منبثقةٌ من تفسيراتٍ عشوائية لكيفية التصرّف والعيش والكلام، ولنوع الملابس وألوانها، وفقاً لما يُريح أولئك الروّاد، ويُفعِّل سطوتهم.

 

 

عادل إمام مختفٍ، وهذا حقّ له (إنْ يكن مريضاً أم لا). إعلان سبب اختفائه أو عدم إعلانه حقّ له. جمهوره الخارج على قاعات النمائم ومنها يريد معرفة السبب، وهذا حقٌّ له أيضاً. إنْ يكن مريضاً، يعود الحقّ في إعلان مرضه إلى من يُفترض به أنْ يكون قريباً منه ومُكلّفاً بذلك، وهذا غير مُحدَّد وواضح، غالباً، إذْ مَن المُكلّف بذلك فعلياً، ومن يحقّ له النطق باسمه، وبأسماء زملائه وزميلاته في شؤون الثقافة والفنون، إنْ يكن هناك مكلّفون رسمياً بذلك في العالم العربي. لكنّ المنشور عن "اختفاء" الممثل، وتصريحاتٌ مختلفة لأناسٍ عديدين، بينهم إعلاميون وصحافيون، مُثيرة كلّها لتساؤل عن مغزى حملاتٍ كهذه، في بلدٍ (مصر) يُعاني أزماتٍ خطرة، بسبب أفعال نظام قامع، أخطر بكثير من ملامح شيخوخة ممثلة (وأسباب الشيخوخة)، ومن غياب ممثل عن المشهد العام (وأسباب الغياب). في بلدٍ، الغالبية الساحقة من نتاجه الثقافيّ والفني خاضع لسلطةٍ حاكمة باسم العسكر، وللعسكر شأنٌ في عزلة عادل إمام. أمْ أنّ النسيان ضاربٌ بقوّة؟ تصريح عبد الفتّاح السيسي عن "الإرهاب والكباب" (1992) لشريف عرفة (28 فبراير/شباط 2022) كافٍ لفهم ضغوطٍ، يُمارسها نظامٌ قامعٌ ضد ثقافةٍ وفن، وضد إمام. وماذا عن أقوالٍ شبه مؤكّدة (فبلدٌ يحكمه نظامٌ قامعٌ كهذا يندر أنْ يُؤكَّد أمرٌ، للنظام نفسه علاقة به)، تُشير إلى ضغوط الحاكم بأمر العسكر على عادل إمام، ما يدفع الممثل/النجم إلى ابتعادٍ أوّل عن استديوهات الأعمال الرمضانية، التي يُقال إنّ النظام نفسه سببٌ له (الابتعاد)؟

إعلاميو السلطة وصحافيّوها، وروّاد قاعات النمائم وإطلاق الشائعات والتحريض والشتم والتنمّر والاستهزاء، يتجاهلون كلّياً مصائب تحلّ بالثقافة والفنون، في راهنٍ مصريّ مُنهار. مهرجانات سينمائية متداعية، وصراعات قوى تُطيح "مهرجان الجونة"، وإقالات غير صائبة لسينمائيين محترفين من إدارة مهرجانات، وتعيين آخرين أقلّ أهمية وحِرفية، كالحاصل في "مهرجان القاهرة" مثلاً، إذْ يؤدّي ضغطٌ متبوعٌ بشائعات مغرضة وخبيثة إلى استقالة سمير فريد من إدارته، التي يستلمها لعامٍ واحد (الدورة الـ36، بين 9 و18 نوفمبر/تشرين الثاني 2014)؛ ويفضي انهماكُ محمد حفظي في اشتغالاته كمنتجٍ إلى إقالته من المنصب نفسه، بعد 4 دورات (بين عامي 2018 و2021) تشهد حُسن إدارة، وسعي إلى تطوير وبلورة، رغم إتاحته فرصاً عدّة لشركته الإنتاجية ولمقرّبين منه للمشاركة في أعمال منتديات وسوق وغيرها. "مهرجان الإسكندرية"؟ اهتراء فظيع في جوانبه كلّها. مؤسّسات السينما في مصر؟ كارثةٌ تلو أخرى.

إعلاميو السلطة وصحافيّوها، وروّاد قاعات النمائم وما يُشبهها، يتجاهلون كلّياً التدخّل السافر لأجهزة أمنية وعسكرية مصرية في أعمال فنية، لإحكام القبضة المطلقة على كلّ إنتاجٍ رمضاني وغير رمضاني. مسؤولو نقابات فنية مختلفة غير متردّدين البتّة عن أنْ يكونوا جنوداً في خدمة الحاكم بأمر العسكر. هذا كلّه غير مهم بالنسبة إلى من ينقاد لنظامٍ قامع، فالأهم عنده شيخوخة تعني أنّ الممثلة تدفع ثمن "خطاياها" السابقة، وأنّ الممثل المنسحب ممنوع عليه اتّخاذ قرار يُرضيه، أو ربما يُفرض عليه لسببٍ ما، إنْ يكن مرضاً أو سلطةً قامعة.

مشهدٌ كهذا يُحرِّض على تفسيرٍ شخصي: أيُمكن لحملاتٍ على ميرفت أمين وعادل إمام، مثلاً، أنْ تكون من أعمال نظامٍ حاكم بأمر العسكر، لإلهاء من يلتهون أصلاً عن جوهر الأزمات، وأزمات مصر غير محصورة في السينما فقط؟ سيُردَّد أنْ لا حملة على عادل إمام، فالمُتَدَاول حالياً منبثقٌ من رغبةٍ في معرفة سبب انسحابه. هذا صحيح. لكنّ الرغبة غير بريئة، لأنّها تترافق وشائعات وخبريات، يُتقن إعلام سلطة قامعة في ابتكارها، لتغطية أفعالٍ تصنع انهيارات، أو لتحطيمِ مرفوضٍ من قبلها، أو لإعلاء شأنِ فردٍ عادي على حسابِ آخر لامع وحِرفيّ ومُبدع، في المجالات كلّها. وهناك، دائماً، من يُنفّذ طلبات السلطة.

نظام الحاكم بأمر العسكر يريد إخضاع الجميع لسلطته. عاملون/عاملات في السينما يبرعون في الخضوع له، والتذلّل له، والانصياع له، إنْ يكن هذا خوفاً، أو اضطراباً نفسياً في الشخص/الفرد، عاشق الخضوع والتذلّل والانصياع، وطالب رضى حاكمٍ لإشباع غريزة التسلّط فيه. أو بسبب تفشي جهل قاتل، مُحصّن بثقافة منغلقة ومتشدّدة وقامعة، بشكل غير مسبوق.

"الإرهاب والكباب" مثلٌ فاقعٌ على إرهاب نظام حاكم باسم العسكر، البارع في حجب "الكباب" عن شعبه.

المساهمون