ناتاليا بوكلونسكايا... النائبة الروسية الأكثر إثارة للجدل

04 يونيو 2021
رفضت القيود على الإنترنت وقالت إنها تريد مجتمعاً ديمقراطياً (أنطون نوفوديروزكين/تاسّ)
+ الخط -

طيلة 5 سنوات هي عمر حياتها السياسية، كانت ناتاليا بوكلونسكايا النائبة الروسية الأكثر إثارةً للجدل. تصدّرت تصريحاتها الأخبار، كما مطالباتها القمعية تارةً والحرياتية تارةً أخرى، فيما تنقّلت ألقابها بين "الحسناء" و"أيقونة ربيع القرم" التي اخترع مناصب لها شخصياً، وصولاً إلى إغضابها الكرملين وإقصائها عن الإعلام والحياة السياسية.

صعود وهبوط
في قصة نموذجية لحدود وضوابط الصعود في الحياة السياسية في الأنظمة الشمولية، قررت النائبة في مجلس الدوما (البرلمان) الروسي، ناتاليا بوكلونسكايا، البدء في كتابة الفصل الأخير في قصة صعود سريع مفاجئ في الحياة السياسية الروسية. إذ أعلنت انسحابها من المنافسات التمهيدية لإكمال قائمة حزب "روسيا الموحدة" الحاكم في الانتخابات المقبلة، ودعت أنصارها وناخبيها إلى عدم القلق على مستقبلها، وقالت إنها ستنتقل إلى عمل آخر خريف العام الحالي في شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا ربيع عام 2014، وشهدت صعودها الصاروخي منذ عام 2015.

فبعد الصخب الذي أثارته بمواقفها القومية المتشددة، صادق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 2 مايو/أيار عام 2014، على قرار تعيينها مدعياً عاماً في جمهورية القرم بعد ضمها إلى روسيا. وبعد يومين على تعيينها، وجهت بوكلونسكايا إنذارًا قوي اللهجة لرئيس مجلس التتار في شبه الجزيرة، رفعت تشوباروف، حذرته فيه من أن السلطات لن تتهاون مع "النشاطات المتطرفة"، في رد على رفض معظم تتار القرم ضم روسيا شبه الجزيرة واقتطاعها عن أوكرانيا. كما انتقدت بحدة "النظام الأوكراني القاتل لشعبه". وازدادت شعبية المدعي العام الجديد في روسيا كثيراً في العامين التاليين لضم القرم، ليتلقفها صناع السياسة الداخلية في الكرملين، ما ساهم في رفع أسهمها، وترشيحها للانتخابات البرلمانية في خريف 2016 وفوزها بمقعد في الدوما.

واستمر الاحتفاء ببوكلونسكايا في موسكو، وترأست لجنة برلمانية مهمتها التحقق من نزاهة وصدقية وثائق دخل أعضاء مجلس الدوما، إضافة إلى شغلها منصب نائب رئيس لجنة الأمن ومكافحة الفساد، وعضو لجنة الدفاع والأمن القومي وإنفاذ القانون.

بلغ الغضب من بوكلونسكايا ذروته في صيف 2018، حين خالفت قرار حزب "روسيا الموحدة" وصوتت ضد قانون رفع السن التقاعدية. وردًا على سيل الانتقادات من داخل حزبها وخارجه، قالت النائبة "أنا أعمل بما يمليه ضميري". وبعدها بدأت حملة معاقبتها. وفي يوليو/تموز 2018، قاطع أعضاء حزبها جلسات اللجنة البرلمانية التي تترأسها والمعنية بمراقبة دخل النواب، وفي وقت لاحق من العام ذاته تم إلغاء اللجنة وضمها إلى لجنة السلوك والنظام في مجلس الدوما.

وفي رسالة في صفحتها على "تيليغرام"، أعلنت بوكلونسكايا، نهاية الأسبوع الماضي (الجمعة 28 مايو/أيار)، انسحابها من المنافسات التمهيدية لاختيار المرشحين عن حزب "روسيا الموحدة"، لتنهي قرابة خمس سنوات من حياة سياسية اتسمت بكثير من التناقضات، والتصرفات والتصريحات التي أغضبت الكرملين وأثارت نقمة زملائها في حزب السلطة، وتسببت في إبعادها تدريجيًا عن الظهور في وسائل الإعلام الروسية.

وكشفت بوكلونسكايا، في مارس/آذار الماضي، أنها لم تتلق عرضا من حزب "روسيا الموحدة" لإعادة ترشيحها ضمن قائمة الحزب، علماً بأنها انتُخبت على قائمته في 2016 عن شبه جزيرة القرم. وحينها، كانت أكدت أنها لا ترغب في إنهاء حياتها السياسية، وسوف تشارك في الانتخابات البرلمانية المقررة في منتصف سبتمبر/أيلول من العام الجاري.

الإعلام بين الجدل والجمال
تصدّرت بوكلونسكايا الأنباء الواردة من القرم بعد ضمه إلى روسيا، وصدّرها الإعلام الروسي كإحدى "أيقونات ربيع القرم"، وهي التسمية التي أطلقتها وسائل الإعلام الروسية على الأحداث التي سبقت وتلت السيطرة على شبه الجزيرة وتنظيم استفتاء وافق فيه أكثر من 90 في المائة من المشاركين على انضمام القرم إلى روسيا في مارس/آذار 2014. وفي حين ركّز الإعلام العربي، خاصة الروسي الناطق باللغة العربية، على جمال بوكلونسكايا، تناقل الإعلام الروسي والعالمي تصريحاتها المؤكدة على تبعية شبه جزيرة القرم لروسيا تاريخياً، وانتقاداتها القاسية بحق القيادة الأوكرانية.

بعد تصاعد الغضب منها، تجاهلت وسائل الإعلام الحكومية بوكلونسكايا بشكل شبه كامل. وفي بداية العام الحالي، أغضبت النائبة السلطات مرة أخرى بتصريحات أكدت فيها أن من حق المواطنين التساؤل حول قانونية اعتقال المعارض أليكسي نافالني، خاصة أنه كان يخضع لفترة علاج ونقاهة، رغم أنها ترأست لجنة للتحقيق في نشاطات وتمويل "صندوق مكافحة الفساد" الذي أسسه نافالني.

ورداً على قرار هيئة الرقابة على الإنترنت والمطبوعات، إبطاء سرعة الوصول إلى "يوتيوب" و"تويتر" في مارس/آذار الماضي، أكدت النائبة أنها ترفض فرض قيود على عمل جميع وسائل التواصل الاجتماعي، وقالت إنها ترغب بالعيش في "مجتمع ديمقراطي يحصل فيه الروس على جميع المعلومات من مصادر مختلفة". وشددت على حق الروس في إبداء آرائهم والتظاهر السلمي، وأنها تفضل أن تكون "روسيا منفتحة".

القياصرة وفيلم ماتيلدا
مع توسع دائرة القضايا التي يمكن أن تدلي فيها بدلوها، بحكم منصبها الجديد كعضو في البرلمان، أثارت بوكلونسكايا جدلا واسعا مع تصدّرها حملة في نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته ضد عرض فيلم "ماتيلدا"، وبدأت عمليًا خلافات النائبة المشبعة بالأفكار القومية الأرثوذكسية التي روج لها الكرملين منذ بداية صعود بوتين وازدادت بعد 2012 كثيرًا مع حزبها ومع السلطات.

وطلبت بوكلونسكايا من مكتب النائب العام الروسي التحرك، وفتح تحقيق حول هذا الفيلم الذي يروي قصة راقصة الباليه البولندية ماتيلدا كشيينسكايا، التي كانت عشيقة آخر القياصرة نيكولاي الثاني، حين كان وليا للعهد. ولاحقاً، طالبت النائبة بوقف عرض الفيلم بحجة أنه يعرض صورة للقيصر لا تتوافق مع النظرة له في الذاكرة الجمعية الروسية التي تعده "قديسا شهيدا" قتله الشيوعيون بعد ثورة 1917، وطلبت من الادعاء العام النظر في تخصيص موارد من الموازنة الحكومية لدعم أفلام تسيء للتاريخ الروسي ورموزه.

وتزامنت حملة بوكلونسكايا ضد الفيلم بطلب من حركة "الصليب القيصري" التي تقدس عائلة رومانوف القيصرية، مع أحداث عنف استهدفت دور السينما التي عرضت الفيلم. وبدأت وسائل الإعلام تتحدث عن علاقة للنائبة مع حركات قومية أرثوذكسية مثل "عبدة القيصر" تدعو إلى عودة حكم القياصرة. وأثارت تصريحات النائبة وتصرفاتها، حينها، غضب أعضاء بارزين في الحزب الحاكم والدولة، وحذّر القيادي في حزب "روسيا الموحدة" كونستانتين دوبرينين ومحامي الدفاع عن فريق الفيلم من أنها يمكن أن تفقد مقعدها النيابي وولايتها وحظوتها عند الكرملين بسبب موقفها المتشنج من الفيلم. ومن جانبه، قال وزير الثقافة فلاديمير ميدنسكي، حينها، إن "ماتيلدا" فيلم إبداعي عادي، وندد بحملة "شائنة" ضده. وفي أثناء إجابته على أسئلة المواطنين والصحافيين في لقائه السنوي التقليدي، تدخل بوتين شخصيًا لإنهاء الجدل، وأكد أنه لا يوجد أي توجه لحظر الفيلم، وقال إن مخرج الفيلم أليكسي أوتشيل "مخرج مبدع وأحترمه كشخص ذي أفكار وطنية". ولكن بوكلونسكايا لم تصمت وردت على تصريحات بوتين بالقول إنها لا تعارض حرية الإبداع، مستدركة "لكن يجب على المرء أن يفهم أن هذه الحرية يمكن أن تنتهك الحقوق الدينية".

تصلح قصة الصعود والهبوط السريعين للنائبة بوكلونسكايا كنموذج لحياة السياسيين في البلدان ذات الأنظمة الشمولية، والصعوبات التي يواجهها كل من يسعى إلى مخالفة "عرابه". ورغم التناقضات الكثيرة في أفكارها وتصريحاتها والجدل الكبير الذي أثارته طوال هذه السنوات، فإن الحياة السياسية القصيرة للسيدة التي دخلت عامها الحادي والأربعين في 18 مارس/ آذار من العام الحالي الذي يتزامن مع الذكرى السابعة لضم القرم الذي شهد بداية انطلاقها، ربما علمتها أيضاً بعض الأساليب المتبعة للبقاء في وظيفة حكومية وازنة. فحسب كثير من الآراء، فإن انسحاب بوكولونسكايا من الانتخابات جاء بعد مناورات أفرزت صفقة رتبت فيها أوضاعها بعد تأكدها من أن مستقبلها السياسي انتهى.

المساهمون