ميادة بسيليس... أغنيات جعلت السوريين أقل تعاسةً

20 مارس 2021
+ الخط -

 

رافدان يُعدّان من أركان الغناء الشامي، يصُبّان في سيرة الراحلة ميادة بسيليس (1967 ــ 2021)، هما الكنيسة الشرقية ومدينة حلب السورية. وفّر تراث الترتيل السرياني والبيزنطي السوري من جهة، بيئة سمعية جمالية نمت بها الأصوات وتدرّبت وتهذّبت، حيث نشأ أصحابها منذ الصغر، سواءً على الغناء جماعةً أو فرادى، والأداء أمام جموع من المرتادين، أكانوا مستمعين في حفلات، أو مُصلّين خلال طقوس العبادة.

من جهة أخرى، ألقى الترتيل الديني على عاتق المُغنّي المولود من رحمه مسؤولية اجتماعية، بحكم ارتباط حضوره الفني بمؤسسة دينية، بذلك تجعله يرى مخرجه الفني مهما كان، من منظور روحاني، فينأى بشخصه وصوته عن الابتذال أو تقديم أيّ من التنازلات، بغية الحصول على الشهرة أو الكسب المادي.

بأثر البيئة تلك، يلمس من يرى ويسمع بسيليس، الجليّ البيّن من الرقي والوقار، وذلك من اصطفائها للأغاني أو الألحان، إلى السلوك والأداء على خشبة المسرح. أما حلب، فهي وطرابلس اللبنانية، والموصل العراقية رؤوسٌ ثلاثة لمُثلث الموسيقى والثقافة بشرقي حوض المتوسط. لذلك، فإن مجرد سماع صوت ميادة، وهي لم تكن حينها قد بلغت التاسعة، من على أثير إذاعتها سنة 1976، هو مؤشر على صوت جديد وموهبة أخرى من سلسلة الأصوات الحلبية، التي اعتادت معايير مُرتفعة حددها أهل المدينة وتاريخها، والنخبة الموسيقية المُقيمة فيها، من ملحنين ومطربين ومُنشدين. حضور مُحتشم ومتأنّ يفرض على من حوله الاحترام، خامة صوتية منخفضة ودافئة، رخيمة وممتدة، مدرّبة على أداء عديد الألوان الغنائية، من كنسي وطربي، إلى شاعري فيروزي وشرقي بلوزي بنكهة الجاز، كلها جعلت من ميادة بسيليس، بشراكتها مع كل من زوجها الملحن والموزع السوري سمير كويفاتي والشاعر سمير طحان، أيقونةً للغناء "الجاد" المتجه نحو أسماع طبقة وسطى تبحث بين الأغاني، عن رومانسية هادئة، وعصرية انفتحت على صناعة الفيديو منتصف إلى آخر التسعينيات، لتتوّج من خلال أعمال ساهمت في الإضاءة على ميادة من المحيط إلى الخليج.

تُعد حقبة ميادة بسيليس، أيضاً، طيّاً لصفحة ماضية كانت اللهجة المصرية في الأغنية العربية هي السائدة، ماعدا التجربة الرحبانية واللبنانية عموماً لأسماء لامعة كفيروز وماجدة الرومي والراحل وديع الصافي. وفي ذلك افتراق عن ميادة أخرى حلبية، هي ميادة الحناوي، كانت قد احترفت، خلال فترة الثمانينيات، الغناء باللهجة المصرية، وأداء الألحان المصرية التقليدية. محطة أخرى مرّت بها سيرة بسيليس، هي الدراما التلفزيونية السورية، والتي كانت تشهد طفرة إنتاجية وإبداعية أيام التسعينيات، إذ غنّت شارات أشهر المسلسلات الرمضانية، كالملحمة التلفزيونية "أخوة التراب" للمخرج السوري نجدة أنزور سنة 1996، من مفرزات العمل ضمن الدراما، مقطع أغنية "كذبك حلو" التي أخرجها أيمن زيدان بالتزامن والاستفادة من وجود طاقم يصور مسلسل "هوى بحري" لباسل الخطيب سنة 1997.

أمّن المقطع المصور بعض الحضور لبسيليس على شاشات التلفزيون، وعدّ صافرة البداية في توسّع قاعدتها الشعبية. وعلى الرغم من فوزه بالجائزة الذهبية عن أفضل أغنية عربية سنة 1999 فإن الأغنية، بفضاءاتها الشاعرية وأجوائها الرومانسية، ظلت أبعد ما تكون عن هوى الشارع ومزاجه الفني العام.

أتقنت بسيليس طيفاً واسعاً ومثيراً من الاهتزازات الصوتية Vibrato حتى تلك التي لم تكن لتناسب حنجرتها العريضة والمنخفضة. فمن التموّج الشرقي الطربي البطيء إلى الغربي الدرامي التغريدي السريع، وصولاً إلى انزلاقات الجاز الصوتية. غزارة وتنوع تزخر بهما الأغنية وتعبر بالمصغي من تجربة موسيقية إلى أخرى ومن أسلوب غنائي إلى آخر يكاد أن يكون النقيض. في محاولة كل من سمير كويفاتي وسمير طحان، بصوت الراحلة بسيليس، الاقتراب من الأغنية الشبابية، وإن دونما تخلّ عن المسافة الاجتماعية من المادة المعمولة للرقص المحض، أُنتجت أغنية "عادي". على إيقاع الرومبا اللاتيني وترديد الكورس في أجواء ساهرة راقصة، يبدو توظيف المفردة اللغوية كنواة تشكيل إيقاعية كـ "عادي"، أما لجهة الغناء، فتظهر بقوى المقدرة الصوتية التي حازتها ميادة بسيليس، فهي تغني جلّ "كوبليه" الأغنية بطبقة شديدة العلو، قياساً بلون صوتها المنخفض والمعتم، بالتصميم الطبيعي. شكّل ظهور ميادة بسيليس على الساحة الغنائية في سورية منتصف التسعينيات إحدى تلك المحاولات الأخيرة اليائسة في استمالة الذائقة الفنية، لأبناء طبقة وسطى بدت كما لو أنها تعاني الانكماش المستمر، وذلك بتقديم أغنية حديثة تسعى إلى الرواج، تستفيد كغيرها من مناخات الإنتاج الفني الخاص التي أصبحت سانحة ومتاحة، وتتقاطع مع وسيلة جماهيرية أخذت تزداد أثراً وانتشاراً ألا وهي الدراما التلفزيونية.

أغنية تطرح على شباب الطبقة الوسطى نموذجاً بديلاً عن الأغنية اللبنانية بمقدماتها الرحبانية وبارتداداتها الأكثر جدة وحداثة كأغاني ماجدة الرومي وجوليا بطرس. مسعى قديم جديد منذ الثمانينيات في جمع النخبوي بالتجاري والكلاسيكي بالشبابي. والراقص والمرح بالجاد والملتزم، أسهم في ذلك الطرح أسلوب زوج الراحلة سمير كويفاتي، المُنفتح على التطبيقات الإلكترونية في الموسيقى الحية والمنتجة. إلا أن المجتمع ظل يسير نحو مزيد من الاستقطاب، سواءً لجهة الفوارق الاقتصادية، أم لجهة الذائقة الفنية. الواقع الذي لم يكن ليجعل من ميادة بسيليس نجمة بالمعنى الفني والتجاري للاسم. مع ذلك، نجحت الراحلة، في أن تعتلي المسارح السورية والعربية والعالمية، كسيدة راقية (أكابرية) تملك صوتاً فذاً، وإرثاً ثقافياً من آلاف الأعوام. سعت إلى أن تكون عابرةً للأجيال، ولسوف يذكرها السوريون كواحدة من النسوة اللاتي أسعدن أو جعلن الناس أقل تعاسة.

المساهمون