موسيقى سيزار فرانك... رموز روحية وأخرى حسية

14 ديسمبر 2022
اختص بعزف الأورغن وكتب لها (Getty)
+ الخط -

مرت في العاشر من الشهر الحالي، الذكرى المئوية الثانية لمولد المؤلف الفرنسي الرومانتيكي سيزار فرانك (1822-1890). وإن كان فرانك بلجيكي المولد، فرنسي الجنسية، إلا أن موسيقاه ظل يُشار إليها بأنها جرمانية الطابع. مظهر آخر شكّل مرساةً نفسية إزاء تنازع الهويات لديه قد طبع نتاجه الموسيقي، ألا وهو التديّن. المقصود هنا ارتباطه فكراً وممارسة بالكنيسة الكاثوليكية. من هنا، أُشير إلى أعماله بأنّها مسيحية الهوى، مشغولة بالروحانيات ومشحونة بالعاطفة الدينية.

قد لا يبدو هذا غريباً من مؤلف موسيقي اختص بعزف الأورغن وكتب لها. والأورغن هي الآلة العملاقة التي تكاد توجد داخل كلّ كنيسة في أوروبا، تتألف من حزمة أنابيب نحاسية تتفاوت بالحجم وبالارتفاع، يُضخّ عبرها الهواء، فتُصدر نغمات يتحكم بارتفاع وشدة ولون أصواتها لوح مفاتيح معقد، يُشبِه قمرة قيادةٍ لسفينة أو طائرة. وقد وُجدت الآلة لتحلّ محلّ فرقة موسيقية، تصاحب الطقوس والمناسبات الدينية والاجتماعية التي عادةً ما تستضيفها الكنائس.

للأورغن ألّف فرانك ثلاثية، عنون كل جزءٍ منها "كورال". كما وقد جعل لكل كورال قالباً ثلاثياً. يرى معظم من تمعّن في دراسة أعماله، أنّ ثمة دلالات كهنوتية للتشكيلات الثلاثية عنده. على غرار أستاذ كتابة الكورالات من القرن السابع عشر، يوهان سباستيان باخ (1685-1750)، غالباً ما يتجاوز الشكل الموسيقي الوظائف الكنسية الموكلة إليه، ليغدو أشبه بخلوة تأملية خاصة بالمؤلف، يُناجي من خلالها الذات الإلهية. في إحدى الدوريات الفصلية التي كتب بها عالم الموسيقى ومؤرخها جوليان تيرسو (1857-1936)، كان قد أشار إلى أنّ فرانك "امتلك قلباً كريماً وروحاً معطاءة، تحنّ على الفقير، المسكين والبسيط. من العلوّ الذي احتله مقعده خلف لوح مفاتيح الأورغن، كان يُنصت إلى كلام الله، يخترق نفسه".

النزعة الروحية عند سيزار فرانك، التي تمظهرت لديه عبر التديّن الشخصي والاشتغال بالأشكال الموسيقية ذات الطابع الكنسي، لها صلة تتجاوز الذاتي إلى الموضوعي، والفردي إلى المجتمعي؛ إنها بذلك صدى لروح عصره وسياق حقبوي عاشه تمثّل بما يُعرَف بالرومانسية. لم تكن الحقبة الرومانسية التي ظهرت في إنكلترا، ثم عمّت أوروبا منتصف القرن التاسع عشر، ردّة دينية، وإنما ردّة فعل، أولاً، في وجه تيار الفكر العقلاني الذي ساد منذ عصر التنوير منتصف القرن الثامن عشر، وثانياً، في وجه الثورة الصناعية والطرق التي غيّرت بها حياة الفرد وتركيبة المجتمع.


نجحت الاكتشافات العلمية في مجال الفيزياء والأحياء، بإنهاء احتكار المؤسسة الدينية للحقيقة، ما مهّد إلى مرحلة أصبح فيها المنطق سيّد الأحكام، والشك عماد الفكر والتجربة أساس المعرفة. بدورها، غيّرت الثورة الصناعية من بنية المجتمع التقليدية التي رعتها الكنيسة، والقائمة على هرمية بطركية تحكم الأسرة وتوزع الأدوار فيها، إذ صار يُنظر إلى الفرد كوحدة إنتاجية، خارج الأطر الأسرية. هكذا، تعززت الفردية من جهة، ومن جهة، اغترب الأفراد بابتعادهم عن مؤسسات المجتمع وتبعيتهم المُحدثة لوسائل الإنتاج.

من هنا، أتت الرومانسية لتُعيد إلى الإنسان توازنه الروحي، بعدما ذهب بعيداً جهة العقل، إلى أن بات كل من العلم والعلمانية نُذراً بعقائد جديدة، تُحيّد لديه سُبُل الحدس العاطفي والخبرة الشعورية، فصار بحاجة إلى سردية تؤنس اغترابه في مجتمعٍ حداثي يتحوّل ويتبدّل بسرعة وقسوة. في وصف التيار الفني الأدبي الصاعد، كتب الشاعر الفرنسي الشهير شارل بودلير (1821-1867): "لا تكمن الرومانسية في المواضيع التي يختارها الفنان، ولا في نسخه للحقيقة. وإنما في الطريقة التي يُحسّ بها. الرومانسية والفن الحديث (أي في سياق العصر الذي عاش به بودلير) كلاهما واحد. بتعبير آخر، الرومانسية هي كل من تلك الحميمية، والروحانية، واللون، والتوق إلى اللانهائي، معبّراً عنها بجميع الوسائل التي في حوزة الفنان".

لذا، لم تكن النزعة الدينية لدى سيزار فرانك، وغيره من الرومانسيين ذات صفة دَعوية، وإنما روحية، تأملية مشغولة بالميتافيزيقيا، مشحونة بالعواطف. ولئن تبقى الموسيقى معنية بالرمز لا بالخطاب، بوصفها أشد الفنون تجريداً، فإن موسيقاه مفتوحة على التأويلات التي تتجاوز الديني إلى الدنيوي، والروحي إلى الحسّي. أبلغ مثال على ذلك هو مقطوعته الأكثر شهرة، سوناتا الكمان برفقة البيانو سُلّم لا ماجور. حين كتبها سنة 1886، كان في مطلع الستين من عمره. أرادها هدية زفاف إلى أسطورة الكمان في عصره، البلجيكي يوجين إيزاي (1858-1931).


في الظاهر، تُشكّل سوناتا الكمان نقيضاً لصورة فرانك عازف الأورغن التقيّ الورِع التي رسمها تيرسو في مقالته سابقة الذكر. فالمقطوعة مفعمة بالحسيّة، تعكس حالاً من الشبق الناجم عن العشق والهيام، وثمة عناصر شكلية تُبرز تلك الحسيّة. خذ مثلاً الارتكاز على الضربة الإيقاعية المرتدة، أو ما يُعرف بالسينكوب (Syncope)، ثم هنالك الانتقال النغمي التدريجي، عبر فواصل متلاصقة صعوداً، لتجسيد الذروة الجنسية، ناهيك عن التداخلات بين آلتي الكمان والبيانو التي توحي بالتحام أجساد العاشقين.

يبقى المناخ الأكثر تجليّاً من خلال أجواء سوناتا الكمان والبيانو هو الحميمية التي تحدث عنها بودلير. تكمن في دفء نغمة اللا، وخملة سلم لا ماجور (الكبير) الذي يجمع ما بين النور والغبطة. الغبطة التي تعم النفس، عند الإحساس بالاكتمال جراء الشعور بالحب، وتحقيق الوصال مع الحبيب. بذلك، تُعارض المقطوعة وضع العُزلة والاغتراب في المجتمعات الصناعية، من خلال التناغم بين العناصر الجمالية، في سردية موسيقية تتناهى ثُنائيةً بين آلتين، أكثر منها فردية، في صورة آلة كمان تعزف، تُرافقها آلة بيانو.

وفي هذا التقاء للروحي والجسدي عبر الإنساني. فالعاطفة، إيّاً كانت، إيمانية أم شهوانية، هي في نهاية المطاف إنسانية؛ إذ تتعدد وجوه الحب وأدواره، ويبقى الحب واحداً. من خلاله ينكشف الإنسان أمام هشاشة الحياة وحتمية الموت، وفي الوقت نفسه، يتمكّن الإنسان ويتقوّى عبر اتصاله بالإنسان أو بالقدسي. ذلك ما سعت الرومانسية إلى الإيحاء به أدباً، وفناً وموسيقى، وسيزار فرانك، الناسك العاشق، أحد أفضل الأمثلة على ذلك.

المساهمون