من يبيع أوبرا لفاغنر… بـ "لايك"

20 مارس 2022
حلّ الهاتف مكان لاعب السي دي أو مسجّل الكاسيت (أندرو أيتشيسون/ Getty)
+ الخط -

متى كانت آخر مرة استمعت فيها إلى ألبوم موسيقي بأكمله؟ كما كنت، حين ابتدأت بطقس فتح علبة قرصه البلاستيكية الرقيقة، لكي تُخرجه، تُحرّره برفق، عن طريق ضغط سبّابتك على محور على شكل زرٍّ لدِنٍ ثُبِّت عليه، بينما تحيط أصابعك الأخرى بسطحه الأملس اللمّاع وحافته الحادة الصقيلة. تحمله إلى مستقره داخل جهاز لعب أقراص أنيق، أسود أو فضيّ، يصله بمكبريّ صوت مركونين في زاويتي الغرفة، أو سماعتين اعتمرتهما على رأسك وحول أذنيك. تعود للجلوس على كرسي أو أريكة. تُغمض عينيك، لتبدأ الاستغراق في رحلة الاستماع نحو ساعة موسيقية كاملة؟

قد يُسمع كل ذلك أصداءً لعصر بائد ولحقبة تاريخية ماضية. ليس فقط لاختلاف طبيعة الوسائل التكنولوجية، التي أُتيح استخدامها في حينه لإحياء تجربة الاستماع إلى الموسيقى، وإنما أيضاً، في طبيعة التجربة ذاتها. إذ لم يعد في الإمكان هذه الأيام، أن يستغرق المرء لأكثر من دقيقة أو دقيقتين. خلالهما، يحاول جاهداً الإنصات إلى مقطوعة موسيقية مُختارة، أو إلى واحدة من أغاني فرقته المفضّلة، من دون أن يقفز خاطره باحثاً عن جوّاله، يتفقد من ذا الذي هاتَفه أو كاتبه... أو أن يلج تطبيق "فيسبوك" و"إنستغرام"، يتحرّق ليرى ما إن كان قد تلقى "لايكاً" أو تعليقاً على منشور علّقه، أو على صورة نشرها هنا أو هناك.

لسنا بصدد بث الحنين إلى الماضي، أو دفع عجلة التاريخ إلى الوراء، ولا الانقلاب على إرهاصات الحاضر، والإطاحة بنمط الحياة المعاصرة، وإنما التوقف عند الكيفية التي تؤثر بها مظاهر ما بات يُعرف بـ"اقتصاد الانتباه" في الموسيقى إبداعاً واستماعاً، إنتاجاً واستهلاكاً. اليوم، بات تركيز مُستخدم الإنترنت هو الجائزة الكبرى التي تتصيّدها الشركات الكبرى. إذ كلما طال النظر إلى الهاتف، واستمر تصفّح المحتوى، كلما زادت نسبة مشاهدة الإعلانات التي تتخلله، فتزيد معها فرص البيع والشراء، لتكبُر بها العائدات والإيرادات.

بتفعيل ميزة تعقب زمن التحديق بشاشة "آيفون" التي توفرها شركة "آبل"، باتت ممكنة معرفة كم من الوقت يُمضيه المستخدم على هاتفه الذكي؛ ثلاث ساعات وخمس عشرة دقيقة هي المدة التي يصرفها الأميركي العادي يومياً، ناظراً إلى الشاشة، كما أنه سيقوم بلمسها لأكثر من ألفين وخمسمئة مرة في كلّ أربعٍ وعشرين ساعة. عُمق هذا الانغماس اليومي في محيط الإنترنت وأسواقه ومنصات تواصله الاجتماعي، يجعل من العسير على إنسان اليوم أن يهب آذاناً صاغية لأيٍّ كان، أو مهما كان، طالما كان في جيبه جوّال.

لمّا يصل الأمر إلى السماع، لو لم يبدأ أولاً بالقدرة على حصر التركيز والتمعّن على نحو مديد في أيّ معروض، سواء كان بصرياً أم سمعياً. لئن أتاحت منصة تويتر فرصة التحري عن ماهية العناوين التي تشغل بال الناس على الموقع، وكم يقضون من الوقت قبل انصرافهم الحتمي عنها، والتوجه السريع إلى عناوين أخرى جديدة، تمكن فريقُ باحثين من رصد كيف أن المستخدمين على مر السنين باتوا ينشغلون في موضوع ما لمدة أقل من السابق، كما أنهم صاروا يهجرونه إلى آخر في غضون وقت أسرع. ففي حين أنهم عام 2013  ظلوا يناقشون إحدى المسائل لمدة سبع عشرة ساعة، قصر أمد أيّ نقاش أو سجال حيال أيّ موضوع عام 2017 لكي لا يتجاوز الإحدى عشرة ساعة.

ما بالك، إذن، حين يكون هاتفك، سارق انتباهك وتركيزك وموطن كل التطبيقات الإخبارية والاجتماعية، هو أيضاً بمثابة بوق الحاكي، مسجلة الكاسيت أو لاعب السي دي الذي بت تستمع من خلاله إلى الموسيقى؟

موسيقى
التحديثات الحية

كيف لك أن تنصت وتطرب إلى، أو أن تشاهد باستغراق أوبرا "بارسيفال" للمؤلف ريتشارد فاغنر، التي تصل مدتها إلى خمس ساعات، أو ملحمة الأطلال الغنائية بصوت أم كلثوم بطول ساعة كاملة، من دون أن يُغريك إبهامك بإيقاف مَعيْن يوتيوب أو سبوتيفاي لوهلة، بغية استراق النظر إلى ما يتداول على فيسبوك من طُرفة مصورة أو وصفة لذيذة؟ أو حتى لجم دوافع الفضول والمعرفة الحميدة لولوج موقع ويكيبيديا، وذلك من أجل التعرف إلى شخصية كوندري الأسطورية في أوبرا فاغنر، مرسال الكأس المقدسة، أو الاطلاع على مزيدٍ من شعر إبراهيم ناجي، كاتب كلمات رائعة رياض السنباطي الخالدة.

تلك الحالة المستجدة، إنما تستلزم مقاربةً مختلفة لما كان سائداً في الماضي، ليس من قبل مستهلك الموسيقى فقط، وإنما من منتجها أيضاً. ترى، مثلاً، كيف أن خدمة كبل HBO التلفزيونية الأميركية العملاقة، قد لجأت إلى صرف شارتها الموسيقية الأيقونية من الخدمة، تلك التي ظلت تستهلّ بها المواد الترفيهية من أفلام ومسلسلات لعقدين من الزمان، والتي كانت تمتد إلى نحو تسعين ثانية. ثم أخذت تبحث لها عن شارة حديثة تتواءم من خلالها مع مشاهد اليوم. مشاهدٌ يافع، مشتت الانتباه، يتابع البث ليس عبر الشاشة الصغيرة، لا بل شاشة أصغر، تُشغّل عن طريق تطبيق الشركة مُحمّلاً على جواله أو لوحه الرقمي.

من هنا، استقر المُحدّثون على مقطع موسيقي شديد الكثافة لا يتجاوز الخمس ثوان، يُنتج بُنسخ متنوعة تهدف إلى دفع الملل عن الآذان وتراعي ظاهرة انعدام الصبر وضعف تركيز الأذهان. والأهم من ذلك، علّ التطبيق بشارته الجذابة القصيرة، أن يُمسك بالمشاهد قبل أن يتسبب إبهامه بإفلاته منها، أو يسلب انتباهه جرس تنبيه يقرعه أحد التطبيقات الأخرى المنافسة.

على مستوى أكثر عمقاً، تبدو استحالة عَصب الانتباه لفترة طويلة، والتي باتت تُميّز ثقافة الإنترنت، كما لو أنها تؤثر على التجربة السمعية حتى لدى نخب الأدب والفن. لا غرابة، إذن، في أنّ مؤلفاً مُعاصراً - عظيماً - كالهنغاري غيغوري كورتاغ Gygöry Kurtág، والذي ظل في العتمة طويلاً، بدأ يظهر إلى النور حديثاً، ويحظى بمزيد من الشهرة والاهتمام بين أوساط الموسيقى الكلاسيكية. إذ إن إحدى الخصائص المُميّزة لموسيقاه قِصَرُ آمادها الشديد، وكثافتها التأليفية الهائلة. مرّات، قد لا تتجاوز الحركة الواحدة من مؤلفاته مدى النصف دقيقة، كالحركة البطيئة Largo من عمل كتبه لرباعي وتري بعنوان Officium Breve. أعمالٌ أشبه بقصائد الهايكو اليابانية، التي لا تتجاوز الأسطر الثلاثة، أو معلّقة تويتريّة، تُنظم ضمن مجال يقلّ عن 300 حرف.

منذ ظهورها على البسيطة، لم تحظ البشرية بتلك الوفرة الهائلة من المعلومات، سواء أكانت مرئية، مشاهدة أم مقروءة، أم مسموعة. التحدي الوجودي الأكبر اليوم، إنما يكمن في ممارسة كل من التأمل والتمعن والتبصّر والتفكّر إزاء ما يُمَسّ ويُقرأ ويُسمع ويُشاهد؛ أي في معالجة المعلومات وليس مجرّد تدويرها واستهلاكها.

في دنيا الفن، لا يتسنى الأمر سوى بالاستغراق التام في التجربة التي يخوضها المرء حين يتذوّق عملاً فنياً، سواء كان بصرياً أو سمعياً. ولأجل تلك الغاية، ينبغي أن يسعى كل من المبدع والمستمع؛ إذ حريٌّ بالمبدع في ممارسته أن يتوخى العمق والكثافة. أما المستمع، فينبغي عليه أن يشدّ انتباهه إلى ما يستحق. إن لم يكن لساعة، فلدقيقة.

المساهمون