استمع إلى الملخص
- تم العثور على أعمال موسيقية لموتزارت وشوبان، مثل سوناتا رقم 11 ومقطوعة "فالس"، مما يوضح دور الباحثين في إحياء الأعمال المخفية.
- يسعى المنتجون لجذب الجمهور للموسيقى الكلاسيكية عبر اكتشاف الأعمال المنسية، حيث تزداد جاذبيتها بقصص مثيرة حول ظروف نسيانها، مما يعكس أهمية التاريخ والصدفة في إبرازها.
في ألمانيا منتصفَ القرن التاسع عشر، اعتاد جبّانٌ كلما خلا من الزبائن، أن يدخل مستودع دكانه في مدينة لايبزيغ، بغرض توضيبه وتنظيفه. أثناء واحدة من الجولات، عندما كان يُخرج من أحد الصناديق القديمة لفافات ورقٍ مستعملٍ، كان قد اشتراه للفّ ما يكيله من الجبن واللحم المقدد، وقعت عينه على حزمة مدوّنات موسيقية عتيقة. حلّ عقدتها، أخذ يتفحّص محتواها، ليجد سلسلة مقطوعات لآلة "الكيبورد" (سلف البيانو الأول) وبعض الأعمال الغنائية الكنسيّة من فئة "كانتاتا".
كانت النوتات قد خُطّت بعناية فائقة وبريشة أنيقة، تذيّل كلا منها توقيعٌ يحمل اسماً بدا للجبّان، الذي وإن لم يكن مُلمّاً بالأدب والفن، مألوفاً، إذ كان لواحد من بين أعلام الموسيقى الكلاسيكية الكبار على مرّ التاريخ، الألماني يوهان سباستيان باخ (1685-1750).
لم يكن باخ في حياته يوماً موسيقياً مغموراً ليُعثر على أعماله بين ورق للف السمانة، بل من بين الأشهر في عصره على نطاق القارة الأوروبية كلها. بعد أن رحل عن عمر 64 عاماً، إثر مضاعفات عملية جراحية أجريت عليه أملاً في إصلاح بصره، اقتُسم إرثه الموسيقي بين كارل فيليب، أحد أبنائه التسعة، الذي أصبح بدوره مؤلفاً معروفاً، وأرملته آنا مجدلينا، التي آثرت بيع حصّتها في مزاد، ذهب من نصيب أحد الباحثين الموسيقيين المرموقين، جورج بوشاو، الذي وهب ابنُه هرمان بعد رحيل الأب مجموعة باخ للمكتبة الملكية البروسية ببرلين سنة 1841.
مرة أخرى في مدينة لايبزيغ، في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، كُشف النقاب عن مقطوعة موسيقية، ظلت منسيّة في دواليب مكتبة البلدية، بعنوان "سيريناد مقام دو ماجور" من أعمال مؤلف عبقريّ يُعد قريناً لباخ في عظمته وشهرته، النمساوي فولفغانغ أماديوس موتزارت (1756 - 1791). تكوّنت المقطوعة من سبع حركات صغيرة، وُضعت ألحانها لآلتي كمان وآلة كونترباص، ويُعتقد أنها تعود إلى فترة مبكرة من حياته، وإنّ ما من أُذنٍ سمعتها قط، غير أذنه.
بعض الأعمال الموسيقية قد جرت محاولة إخفائها عن عمد
تلك لم تكن المرة الأولى التي عُثر فيها على مدوّنة لموتزارت بعد رحيله بمئات السنين. وإن تُعدّ من أشهر مؤلفاته وأكثرها شعبية، فإن مدوّنة السوناتا رقم 11 لآلة البيانو لم تظهر إلى النور، بحركتها الرابعة والأخيرة والشهيرة، المعروفة بالروندو على الطريقة التركية (Rondo alla Turca) إلا في القرن الحادي والعشرين، تحديداً سنة 2014، بين محتويات أرشيف مهمل لإحدى المكاتب الوطنية في العاصمة الهنغارية بودابست.
قد ظلّ يُعتقد أن النوتة الأصلية للمقطوعة ذات الأنماط الإيقاعية الرشيقة الراقصة المستوحاة من أجواء البلاط العثماني، وكتبها موتزارت في سالزبورغ في النمسا سنة 1783، قد فقدت إلى الأبد، إلى أن أطلق أحد الباحثين المجريين حملة بحث واستقصاء لسنوات، كُتب لها أخيراً أن تُكلّل بالنجاح.
في حين أن بعض الأعمال الموسيقية قد جرت محاولة إخفائها عن عمد. ففي سنة 1911، رحل المؤلف النمساوي غوستاف ماهلر قبل أن يُنهي سمفونيّته العاشرة، التي آثرت أرملته آلما إخفاء مدوّنتها لسنوات طويلة، بدعوى أن العمل لا ينبغي أن يُقدّم ناقصاً أو أن يُتمّم بعد غياب مؤلّفه.
استغرق الباحثون الموسيقيون عقوداً استمرّت حتى ستينيات القرن الماضي، ليفلحوا أخيراً في إقناع زوجة المؤلف بإخراج المدوّنة من عهدتها، لتبدأ عملية جمع لاسكتشاتها وتنقيحها، ومن ثم طباعتها بغية أدائها وتسجيلها، لتنضم السمفونية العاشرة منذ ذلك الحين، إلى إرث ماهلر الموسيقي السيمفوني، المترددة أصداؤه داخل عروض الموسيقى الكلاسيكية في كل أنحاء العالم.
أخيراً، ظهرت مقطوعة موسيقية أخرى للعيان، ظلّت منسية لقرنين من الزمان، يُعتقد أنها لم تُعزف قط، هذه المرة للمؤلف الرومانسي البولندي المشهور فريدريك شوبان (1810 - 1849)، إذ عُثر في متحف بمدينة نيويورك الأميركية على مؤلّف لآلة البيانو المنفرد بعنوان "فالس"، وذلك اسم رقصة جرمانية قديمة اشتهر شوبان بنظم الألحان على إيقاعها.
أذاعت شبكة بي بي سي الإخبارية النبأ، مرفقاً بعرضها مقطعاً مُسجّلاً من أداء الصيني لانغ لانغ، يتخلّله صوت من كشف النقاب عن المخطوط، مُدير العروض الفنية روبنسون مكلينان، يسرد حينما رأى المدوّنة لأول مرة، كيف لفت انتباهه مباشرةً الشبه بين التدوين وخط يد شوبان، فصوّر النوتة بكاميرا محمولة وعاد بالصورة مسرعاً إلى منزله، ليفكّ رموزها الصوتية على آلته البيانو، ليتبادر إلى ذهنه على الفور فيما هو يعزف، أنه ربما يكون أوّل من استمع إليها بعد مؤلِّفها.
بالإضاءة على تلك الآثار المنسية أو المخفيّة، يقع ضوءٌ آخر على دور التاريخ وعامل الصدفة والقدر إما في إبراز، أو في حجب أثرٍ من الآثار، فضلاً عن دفع أحدهم ليغدو علماً من أعلام الأدب والفن والموسيقى.
في ظل قلّة الطلب على أعمال الموسيقى الكلاسيكية الغربية، يلجأ المنتجون والمسوّقون اليوم إلى البحث والتنقيب، بهدف العثور على كل ما يجذب الأسماع، إما من مؤلفّات، سَهت عنها سجلات الذاكرة، أو عن مؤلفين بقوا مغمورين لسنين وعقود، وأحياناً لقرونٍ عديدة.
على الأخص إن ترافقت تلك الآثار المنسية والأشخاص المغمورين بقصص يمكن أن تُحكى عن ظروف وحيثيات النسيان وفقدان الأثر، فتصير جديداً وتزيد حظوظ رواجها، لا سيما إن كانت الظروف سياسية وثقافية، أو ناتجة عن تمييز وإقصاء عنصري أو جندري، مورس بقصد محيها من الذاكرة الجمعية. إلا أنه وبغض النظر، يبقى خبر اكتشاف قطعة موسيقية لشوبان، قد لا يكون أحد قد استمع إليها من قبل، خبراً يستحق البث، أقلّه عبر وسائل الإعلام.