- هذه المدن تسعى للحد من تأثير السياحة على نمط الحياة المحلي وجودة حياة السكان، مما يعكس توجهاً نحو "الانعزالية" وتقليل الجاذبية السياحية في ظل صعود اليمين المتطرف.
- بالإضافة إلى القضايا الاقتصادية، تثير السياسات تساؤلات حول مستقبل المدن بدون السياح، مع تحديات في الحفاظ على الهوية المحلية والعوائد الاقتصادية.
أطلقت مجموعة من "ناشطي السكن" في مدينة لشبونة البرتغالية عريضةً وقّعها أكثر من ستة آلاف شخص، تدعو مسؤولي المدينة إلى إطلاق تصويت يمنع السياح من استئجار شقق في الأحياء السكنيّة، وذلك للحدّ من ارتفاع أسعار العقارات. سبقت ذلك مظاهرات عام 2023 للحد من السياح.
موقف مدينة لشبونة هذا، خصوصاً سكانها المحليين بمواجهة السياح مشترك مع العديد من المدن الأوروبية السياحية، التي وجد سكانها أنفسهم بمواجهة أفواج السياح وأموالهم التي أدت إلى ارتفاع أسعار العقارات والخدمات. وهذا ما حصل أيضاً في برشلونة، التي أعلن عمدتها أنه بحلول عام 2028 ستُنهى عقود "الشقق السكنية السياحيّة"، ولن تُمنح تصاريح تأجير لأصحاب الشقق، والسبب ارتفاع إيجارات في المدينة بنسبة 68% خلال السنوات العشر الماضية.
في أمستردام مثلاً، تسعى المدينة إلى نقل "المنطقة الحمراء" خارجاً في مجمع خاص، لتعيد للمدينة تاريخها وجمالها، ولا تقتصر على صخب الحياة الليلية. كما عمدت سلطات المدينة هذا العام إلى الحد من "السياحة المفرطة" عبر منع بناء فنادق جديدة إلا في حال أغلق أحدها. الأمر نفسه في مدينة البندقية التي سنّت كثيراً من القوانين لضبط السياحة، آخرها منع الجولات السياحية التي يتجاوز عدد أفرادها الـ25 شخصاً.
نحن أمام حالة مثيرة للاهتمام، كون المدن المعروفة بأنها "قبلة السياح" ومحط أموالهم، تحاول الحد من دخول المال الأجنبي، ليس فقط بسبب ارتفاع أسعار العقارات، بل أيضاً للحفاظ على نمط الحياة المحليّ ونوعية حياة القاطنين الدائمين. نحن أمام ما يمكن تسميته ضد العولمة، أو محاولة نزع صفة الجاذبية عن هذه المدن الأوروبيّة، لتحويلها إلى صيغة أكثر محلية وانغلاقاً.
لا يمكن تجاهل صعود اليمين المتطرف في العالم وفي أوروبا كأحد محركات هذه النزعات، علماً أن عمدة لشبونة اشتراكي، لكن يبدو هذا التقارب والرغبة في "الانعزالية" مشتركة بين التيارين. لا نعلم بدقة هوية أولئك "السياح"، ومن أين هم، فهل المقصود الأوروبيون فقط؟ أصحاب الحق بالتنقل والسكن أينما أرادوا في الاتحاد الأوروبي، أم أولئك القادمون من آسيا والشرق الأوسط وأميركا؟ خصوصاً أن الطبقات الاجتماعية القادرة على السياحة في أوروبا أعلى من الوسطى.
هذا الغموض في هوية السياح والوقوف بوجههم للحفاظ على الأسعار ونمط الحياة المحلي، لا يختلف كثيراً عن الدعوات والسياسات التي تحدّ من تدفق اللاجئين. المفارقة أن الأسباب متشابهة، وهي غياب أماكن لاستيعابهم سكنياً واعتبار دافع الضرائب أنه يتأثر بمجيئهم.
"الغرباء"، إذن، هم محط النقاش، سياحاً أو مهاجرين، وكأن المدن هذه تطرد الطبقات الأفقر والأغنى على حد سواء. وهنا يمكن فهم التهديد الذي تتعرّض له الطبقة الوسطى، التي عادة ما "تعيش" من ريع السياحة، كالعاملين في الفنادق والمطاعم وبيع التذكارات والتحف. هؤلاء، ونتيجة التخوف من التضخّم وغلاء الأسعار، وجدوا أن الحلّ انعزالي نوعاً ما، من خلال تقنين دخول الوافدين، في حالة يمكن القول إنها تهدّد حالة "المدينة" بوصفها مكاناً يجمع مختلف الهويات والانتماءات.
هناك أيضاً عوامل أخرى تتعلّق بالإزعاج، فالبندقية منعت استخدام مكبرات الصوت، وأمستردام تريد الحد من الاحتفالات في المنطقة الحمراء. صخب السياح لم يعد مُرضياً ومربحاً. وهذا ما يدفع إلى التساؤل حول مستقبل هذه المدن من دون هذه الفئة من السياح الفضوليين والصاخبين، الذين يعملون أيضاً على دفع اقتصادات الظل وتلك السوداء. بصورة ما، هذا الانعزال عن "العالم" واقتصاده، ما زال في مراحله الأولى، لكن في حال وصلنا إلى مدن بلا سيّاح، من سيمتلك حق الزيارة؟