التاريخ ليس كله مفخرة، ولا يمكن استخدامه للغاية هذه فقط. إنّه مجموعات كثيرة من المعلومات المتقاطعة التي قد تميل بالحقائق المنسوبة إلى راويها إلى هنا أو هناك، من جوانب الفخر أو الخزي التي تحبط متلقيها، أو قد تجعل منه هائماً في سحابات التعالي. العرب ليسوا وحدهم أصحاب تاريخ مجيد، فالشعوب كلّها لديها ماضٍ تفخر به، وعلى الأغلب تدرسه دراسة تدقيقية، للوصول إلى أقرب نقطة من الحقيقة، وهنا لب الموضوع؛ لا يهم إن كانت السردية مشينة، فالأصل في كتابة التاريخ هو الاستفادة من أخطاء الماضي وعدم تكرارها. النجاحات لا تفيد أحداً إلا بقدر هامشي له علاقة بالرضى عن الذات، بينما وقائع التاريخ تقول شيئاً آخر، بناء على القراءات المختلفة لها. على سبيل المثال، رأي يوسف زيدان في صلاح الدين الأيوبي، مقابل رأي وليد سيف (كاتب مسلسل صلاح الدين، 2001). الاثنان اعتمدا المراجع التاريخية والتراثية المتوفرة التي تدعم وجهتي نظريهما المختلفتين.
المسلسل التاريخي العربي مبعثر بين مراحل تاريخية عدة، وكذلك الشخصيات التاريخية، وجلها خضع للمعلومات المدرسية، وللتفخيم التراثوي الذي لا يأتيه الباطل من أي مكان، وفي حال الخروج عنهما، يمكن أن تُشن على الأعمال غارات شعواء تدمر الفن ومقاصده السامية. تناولت هذه المسلسلات الحقب التاريخية القديمة، كمصر القديمة وكذلك بلاد الشام، مثل مسلسل "العبابيد" (1997) عن حقبة زنوبيا ملكة تدمر. وهناك أيضاً عصر الإسلام وشخصياته المختلف عليها بشدة (الشافعي، وأبو جعفر المنصور، وعمر...)، وكذلك الأندلس وحضورها في التاريخ الإسلامي (ملوك الطوائف، وسقوط غرناطة...)، وهناك أعمال عن شخصيات تاريخية قريبة العهد (عبد الرحمن الكواكبي، وسليمان الحلبي). يضاف إليها أعمال شبه خيالية عن الفترة العثمانية، وفترة الاحتلال الغربي، وهي أعمال تراثوية بالمعنى الأيديولوجي، تلقي تعليمات تربوية عن الفضيلة والاحتشام.
تضاف إليها الفانتازيا التاريخية التي لا تنسب إلى زمان أو مكان أو شخصيات محددة، وهي دراما حلوة ومسلية، لولا أنها تفسطط العالم إلى هم ونحن، وليس إلى أخيار وأشرار كحكاية درامية تعتمد التشويق والأكشن تحصل بين عموم البشر ونحن منهم، كما حصل في مسلسل "الزير سالم" (نص ممدوح عدوان، إخراج حاتم علي، 2000) حيث تقاتل العرب فيما بينهم، بما يشبه إلى حد بعيد أخبار داحس والغبراء. بل كانت عموم هذه المسلسلات الفانتازية عبارة عن صراع وجودي بين العرب وأغراب آتون من لا مكان يريدون قتل العرب، أو على الأقل تشليحهم قيم الفضيلة التي يختصون بها دون غيرهم من الشعوب، حتى لو كان متخيلاً. وهنا تأخذ الحروب الصليبية مكانها المتخيل في الثقافة الاجتماعية، فالأغراب عادة هم فرنجة، أما الحروب والغزوات البينية فظلت قيد التجاهل.
في هذا السياق الكبير والمتدفق من العروض التي يمكن وصفها بالفنية الإعلامية، تبدو الثقافة الاجتماعية مستهدفة بهذا النوع التربوي من الضخ المعرفي، ولكن المعلومات التي تؤسس لصناعة هذه المعرفة تبدو غير صالحة تماماً لصنع عمل تلفزيوني من دون انحياز معلوماتي مسبق، وهذا ما يقود إلى تهافت القيمة المعرفية مقارنة بالدراسات التاريخية والاجتماعية والأدبية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، شفاهية المنتج التلفزيوني في عصر الصورة، لتبدو الصورة ملفقة ببعض الملابس والديكورات، خضوعاً لحوار لا متناهٍ، يستخدم في الاستماع أكثر من المشاهدة، وفي هذا استمرار للثقافة السمعية على حساب المشاهدة والقراءة والبحث، وهذا ما يذكرنا بفيلم يوسف شاهين "الناصر صلاح الدين" (1963) الذي استقى منه المشاهدون العرب معلوماتهم عن هذه الشخصية التاريخية.
من جهة أخرى، تبدو القدامة الثقافية واضحة وضاغطة في المسلسلات التاريخية العربية، في جو ثقافي يعتبر أن الماضي خزان القيم والمعارف المكتملة بذاتها، ومن دون الالتفات إلى التفاعل مع البيئة ومع المصالح الفردية والجمعية، وهنا يتحول التاريخ إلى مواعظ تقشعر لها الأبدان وليس العقول، في هذا الحيز التربوي من مفاعيل العروض الفنية الإعلامية المسماة دراما تاريخية، حيث لا نطلب العودة إلى الماضي، بل نطلب من التاريخ استعادتنا نحن أبناء هذا العصر، شرطاً لممارسة القيم الفضلى. وهذا شرط مستحيل أمام تحديات العصر الحالي ومنافساته.
من زاوية ثالثة يمكن النظر إلى المسلسل التاريخي على أنه تبشير أيديولوجي، يضع المتلقي في سياقات اجتماعية محددة، بسبب الإجماع الشعبوي على صوابية الماضي في معرفة الحقوق والواجبات. وهذا ما يضعنا دائماً أمام مسؤولية العامة تجاه "المستبد العادل" الذي هو حلم تاريخي، يجب تمثله دائماً، والذي تجاوزته البشرية من أزمان ليست قليلة. لكن انتشار المعلومة التاريخية، في أنساق اجتماعية تبحث عن أيديولوجيا مخلّصة، من دون خسارة ما تعتبره هذه الأنساق قيماً فاضلة، أو حتى بذل الجهد في تحويل العلم إلى معرفة، جعل من المسلسل التاريخي وصفة طبية جاهزة لمعالجة جميع الأمراض الاجتماعية المؤدية إلى الفشل الإنتاجي والإبداعي.
لم ينجح المسلسل التاريخي العربي بالدخول في القراءات المتعددة للحقب والشخصيات التاريخية، واستمد وجوده من اعتباره حكايات لا تخدش الحياء العام، ومأمون من ناحية الدعاوى السياسية، ولا يستدعي مشكلات شعبية. ولكن الأمر لم يطل، إذ انفجرت هذه المشكلات عند عرض مسلسل "عمر" (نص وليد سيف، إخراج حاتم علي، 2012). ليثبت هذا العمل أن القدامة مثل الحداثة، مسببة مشكلات، ولكن لمن؟