محمد رضا شجريان Getty
22 أكتوبر 2020
+ الخط -

تُعدّ حياة أيقونة الغناء الإيراني محمد رضا شجريان، أو صوت الشعب (صداى مردم)، كما أحب الإيرانيون أن يُسمّوا الـ"أستاد"، أي الأستاذ، أمثولة مشرقية في كيفية تفتّح الإبداع على الرغم من غياب هواء الحرية التي لطالما اتّخذتها سردية الحداثة الغربية منذ القرن التاسع عشر، مروراً بالفكر الوجودي، منتصف القرن الماضي، شرطاً بيئياً ومنطلقاً أساسياً لأي خلق فكري أو فني ذي قيمة يساهم به الإنسان الحديث.

قُدر للثامنَ من الشهر الجاري أن يكون ميعاد رحيله في أحد مستشفيات العاصمة الإيرانية طهران. لقد أجاد الـ"أستاد"، كغيره من مبدعي ومثقفي الشرق الأوسط، المفعم بالطاقات والمواهب والمثقل بالمظالم والمآسي، النأي عن الخوض المباشر في معترك السياسة الداخلية لبلاده، مع الإبقاء على وثاقة الصلة بهموم شعبه. فترى فصول حياته وظروف نشأته وعلياء منزلته لدى البنات والبنين الإيرانيين ظلت تؤثر وتتأثر بالداخل والخارج رغم أصفاد المجتمع وأغلال السياسة. 

ولد محمد رضا شجريان (1940 - 2020)، ونشأ في مدينة مشهد الواقعة بإقليم خراسان، وتعني "أرض الشمس" بالفارسية. في خراسان، ولد جلال الدين الرومي، أو "البلخي"، كما يُفضل الإيرانيون الإشارة إليه، والشاعر أبو القاسم الفردوسي صاحب الأشهر بين تُحف إيران الأدبية: كتاب الملوك "الشاه نامه". في مدينة مشهد وفي عهدة أسرة شديدة التزمّت، لم يكن ليُسمح لمحمد رضا أن يُشبع شغفه الموسيقي سوى بحدود التلاوة القرآنية، فقد كان كلّ من والده مهدي وجده علي أكبر من المجوّدين البارزين.   

لكي يحترف الغناء، كان لزاماً عليه الإفلات من أوّل الأقفاص، بيت الأسرة. فيما لم يزل في سن الثانية عشرة، سراً وبعيداً عن الأنظار وتحت اسم مستعار (سيافاش بيدقاني)، عكف شجريان على تعلم أصول "الرديف"، وتعني بالفارسية قصائد شعر الغزل الموزون والمقفّى والمنظوم على الكلمة ذاتها المموضعة عند آخر كلِّ بيت من أبيات القصيدة. 

عبر الرديف، وعى الشاب محمد رضا ذاته بوصفها حبّة من حبّات سبحة التراث الفارسي الممتد آلاف الأعوام. بتتلمذه على جهابذة زمانه من أساتذة الشعر والغناء، راح ينظر إلى غاية وجوده على هذه الأرض على أنها عبورُ أرثٍ حضاري من السلف إلى الخلف. في وصف ذلك الدور الوجودي، أو الغرض من حياته كما يراه، يقول شجريان في إحدى مقابلاته: "الهدف الموسيقي الأول والأخير الذي اخترته لنفسي منذ البداية لم يتغير قط. حيث تمثّل في النهل من خبراء عصري ما سبق لهم أن نهلوه من خبراء عصرهم، لأقدّم تلك العصارة الجمالية هدية لشعبي. في ثقافتنا تعبير يقول إن للأرض رسالة، وللدم رسالة، ولله رسالة كما للإنسان رسالة، وعليه، لماهية الوجود أيضاً رسالة، ولكلٍّ الموجودات غاية ورسالة. وأنا من خلال وجودي وعبر فني أسعى إلى الاتصال برسائل الوجود، وهذا يجعل من وجودي وجوداً بلا حدود".

يتميّز الغناء الفارسي برزانته واتزانه، وانضباط إيقاعاته وألحانه. يتجلى ذلك ليس في مُخرجات شجريان الموسيقية وحسب، وإنما أيضاً من خلال حضوره ومسلكه في أدائه أمام جمهوره. على سجادة عجمية نُصبت على مرتفع جليل من الأرض في ما يشبه التخت، يتوسطها متربعاً بسكينة ووقار. يُحيط به عادة كل من ابنه المغني وعازف الطبلة هومايون، إضافة إلى عازف تار، وهي آلة وترية إيرانية تشبه البزق، ثم عازف كمنشه، وتلك آلة ذات قوس كالربابة. 

قلما يتحرّك الأستاذ أثناء الغناء، وقلما تبدو عليه علامات التأثر والانفعال. وإن علا صوته مرّات واشتد، حتى زلزلت له أرض القاعة. إنه كالشعب الإيراني على مرّ العصور؛ يغلي باستمرار وإن على درجة الصفر، فلا يدري أحدٌ متى يدفع بغطاء القدر. بتشابه وانسجام مع طرائق  الغناء في عموم الشرق، يعتمد شجريان على مخارج الحنجرة. يتميّز أسلوبه، كما في الغناء الكردي والأذري، على الزخرفة اللحنية التي تُرسم بالتناوب السريع ما بين الصوت والصفير.  

يُحيل الأستاذ شجريان نمط الزخرفة الخاصة تلك إلى تغريد الطيور؛ فيقول: "غناؤنا يقترب من غناء البلبل والكنار. تُسمع أصواتنا كأصدائها تتردد على سفوح الجبال المُحيطة بالوديان. نحاكيها بحبال حناجرنا. لقد داومتُ على تأمل البلبل واستلهامه، كما أنني أقتني عصافير الكنار. تشدو من حولي فتُقيم أصواتها في مخيّلتي عبر أذنيّ. وحين أمشي في الطبيعة أظلُّ مشدوداً إلى أنواع الطير، مُنصتاً إليها تغني في البراري". 

مثلها مثل جارتها العربية، يعد الشعر عماد الثقافة الإيرانية. وكما هي الحال دائماً بالنسبة إلى الثقافات التي تتمحور حول لغة قديمة ما زالت على قيد الحياة، تلعب الكلمة من حيث الوزن والاستطالة ومواقع الشد والمد دوراً أساساً في تشكيل الجملة الموسيقية ومفرداتها الصوتية. ناهيك عن أن الموسيقى الفارسية، كما العربية، هي موسيقى غنائية بالأصل، وعليه، فإن اللحن الموضوع على الكلام المنظوم يصير لُبوساً يُقولب على وزن القصيدة وتضاريسها الصوتية.

وعليه، فإن لقامات شعرية كحافظ الشيرازي، أو "حافظ" كما يُسمّيه الإيرانيون، الأثر الأكبر، ليس على النص الشعري الذي ألهم اللحن وحسب، وإنما على الصوت كما يُعزف ويُسمع بصرف النظر عما إذا كان قد أتى كلاماً مغنّى أو لحناً مؤدّى على إحدى الآلات الموسيقية، لجهة خواصه الجمالية التي تبدو للأذن كما لو أنها تنبع من الشعر أكثر مما تصدر عن الرقص. تنزع نحو المجاز والإشارة أكثر من كونها مُتجهةً إلى الخطابة.
   
كمعظم مجايليه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، رنا محمد رضا شجريان إلى الثورة الإيرانية فجرَ انطلاقها سنة 1979 ورأى فيها استجابة لعقود من الاضطهاد والارتهان لمصالح القوى الاستعمارية عاشها الشعب الإيراني بذل واستكانة تحت حكم سلالة الشاه.

لئن نأى الأستاذ بنفسه عن النشاط السياسي خلال أيّ من مراحل الثورة، أو حكم النظام المنبثق عنها، فقد رضي لفنه مع ذلك بأن يخدم قضايا شعبه. ففي سنة 1985، أصدر ألبومه "ظلم" (بيداد)، الذي مثّل نقداً مباشراً لمسار الثورة الذي أخذ يحرف البلد جهةَ احتكار رجال الدين السلطة وتكبيلهم الحريات الخاصة والعامة. 

لم يرق له يوماً أن يرى إيران وقد عادت من جديد لتحلم بالحرية والديمقراطية، وأن يعود الشعب الإيراني، وهو الفنان الشعبي "مردمي" كما كان يحلو له على الدوام تقديم نفسه، إلى العيش في ظل القمع وبحسب قوائم الكبت والمنع. سنة 2009 وفي غمار الثورة الخضراء التي دفعت بالشباب الإيراني مرّة أخرى إلى الشارع ليُقابل بالرصاص الحيّ، غنّى شجريان مخاطباً رجل الأمن: "ضع مسدسك أرضاً، تقدم، اجلس، تحدث واسمع. عسى قبس الإنسانية أن يشق بنوره طريقاً إلى قلبك".

كان لقاء توجهه بقبس الإنسانية إلى مؤسسة السلطة في إيران، أن مُنع الأستاذ من الغناء على أرضها إلى يوم مماته. أما حياته، فقد قضاها، أسوة بغيره من مبدعي الشرق وسائر ضمائره الحية، من قيد إلى قيد ومن قفص إلى قفص. بيد أنه وإلى يومه الأخير، ظلّ مؤمناً بقوة شعبه وعراقة تاريخه وعظمة حضارته. قوةٌ أرادها الـ"أستاد" بلا سطوة. وتاريخ حلُم أن تكون الحرية وجهته النهائية، وحضارة أحبها أن تستمد عظمتها من شعرائها وفنانيها، لا من ملوكها وجيوشها؛ من قبس الإنسانية التي دأب على احتضانها أعلامها الكبار، من مولانا جلال الدين، وحافظ الشيرازي، إلى فروغ فرخزاد، عباس كياروستامي ومحمد رضا شجريان.

المساهمون