كثر الحديث في السنين الأخيرة عن الإمكانات التي توفرها ألعاب الفيديو كوسائط درامية وقصصية اليوم. إذ لا يقتصر انعكاس التطورات السريعة على تفاصيل بحد ذاتها، كالرسوم مثلاً أو غيرها، بل يمتد إلى جذر الموضوع، وهو الحكاية والطرق التي تمكّن اللاعب من التفاعل معها وتغييرها، واستكشاف الكثير من الانحرافات التي يمكن أن تصيبها، الأمر الذي يبني علاقة تفاعلية بين "اللاعب" والعمل الذي يكتشفه. ونتيجة لذلك، ازدهرت العلاقة في الفترة الأخيرة بين عالمي الأدب وألعاب الفيديو، وكانت بعضها، كسلسلة Metro أو The Witcher، مقتبسةً بشكل وثيق من أعمال روائية، بينما اتجهت بعض الألعاب الأخرى نحو التأثر بأعمال مكتوبة، أو الاستلهام منها.
صدرت في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لعبة Orwell’s Animal Farm، المقتبسة (بكل وضوح) من "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل. في الواقع، ثمة الكثير مما يمكن قوله عن راهنية هذا الاختيار لمن يحبون الرواية، ويعدونها عملاً يقدم تعليقاً ملائماً بشأن السلطة اليوم.
إلا أن الأجدر، في هذه الحالة، هو البحث عن الجديد الذي يضيفه وسيط الروي الجديد هذا بطبيعته المختلفة عن الرواية.
عن التصميم العظيم
لا تزال الحرية المطلقة هدفاً بعيد المنال حين يتعلّق الأمر بألعاب الفيديو، إذ مهما بدت الخيارات مفتوحة أمام اللاعبين، فإنها ستعود وتوجههم نحو عدد محدود من النهايات أو الطرق. لا بأس بذلك، حين يدرك اللاعب هذه الحقيقة الباردة عن ألعاب الفيديو (أو بعض جزئيات الحياة حتى)، ويبدأ بعدها بتفحص جودة هذه الخيارات المتاحة. وحين يتعلق الأمر بالميل العام تجاه تصميم الألعاب، فإن عامل الاختيار بات مهماً لتصنيف الألعاب اليوم، مثله مثل العوامل الأخرى، كجودة اللعب أو الرسوم أو غيرها.
وبما أن مزرعة الحيوان لعبةٌ مبنية على عملٍ سابق، فإن الخيارات التي تحاول اللعبة عبرها تبرير وجودها، ستخضع لمقارنتين اثنتين، إحداهما ذاتية، والأخرى مرتبطة بإخلاصها أو خروجها عن عالم الرواية. يبدأ الخط الزمني للعبة بالطريقة نفسها التي يبدأ فيها ذاك في الرواية، في مزرعة القصر التي يديرها السيد جونز وتعاني فيها الحيوانات، إلى أن يحدثها الخنزير أولد ميجور عن الحلم الذي راوده وينشد لها الأغنية التي حلم بها ويحدث التمرد بعدها. وبذلك، فإن اللعبة تغلق وراءها العالم القديم ذاته، لتعطي اللاعب إيحاءً بأنه قد يلعب دوراً في العالم الجديد، وربما في بناء الجنة الموعودة على أرض المزرعة، وهنا تبدأ مشاكل اللعبة بالظهور.
بما أن مزرعة الحيوان لعبةٌ مبنية على عملٍ سابق، فإن الخيارات التي تحاول اللعبة عبرها تبرير وجودها، ستخضع لمقارنتين اثنتين، إحداهما ذاتية، والأخرى مرتبطة بإخلاصها أو خروجها عن عالم الرواية
عندما يفترض اللاعب دور المسيّر لأمور المزرعة، فإنه بذلك يتحكم بكل شيء من منظور الخنازير غالباً، وبذلك تقترب اللعبة خطوةً من الألعاب الاستراتيجية. ووفقاً لهذا الدور، فإن دور الحيوانات الباقية في المزرعة يقتصر على اتباع الأوامر، أو اختيار ردود فعلها وفق ما تقرره الخنازير من دون تأثيرٍ يذكر، ومن دون أي محاولة لجعل هذا الأمر من اختيار اللاعبين أم لا. ينطبق الأمر ذاته على عدد من القرارات التي يتخذها اللاعبون بعد ذلك، والتي لا تغير أي شيء جوهري في مجرى الأحداث، ما يجعل الاستمرار في اللعب أمراً محبطاً بعد فترة، بسبب انعدام الأثر الرجعي من جهة وطبيعة المهام التي تصبح متكررة ومملة كلما تقلّبت الفصول مرة أخرى في مزرعة القصر.
هل ثمة يوتوبيا؟
تقدم اللعبة ثماني نهايات مختلفة يمكن خلالها تغيير بعض الملامح العامة، كإنقاذ الحصان بوكسر من مصيره المأساوي، أو التخلّص من نابوليون عوضاً عن سنوبول، أو إبقاء الاثنين معاً، أو إراحة المزرعة منهما. مع ذلك، تشترك النهايات كلها بالطابع السوداوي الذي يودي بالمزرعة إلى الخراب أو الموت أو عودة البشر (بحد ذاتهم، أو كخنازير تشبه البشر لمن يحب التشبث حتى النهاية بالرواية).
يبدو الأمر محبطاً حين يقاس بفكرة مغرية، كالتلاعب بمسارات القصة لعملٍ شهيرٍ كهذا ويقارن بالمساحة الضيقة التي توفرها اللعبة، بعيداً عن وهم الخيار الذي تمد اللاعب به وكم الواجبات الممل. إذ يمكن أحياناً لخيارٍ هائل كالتركيز على تعليم الحيوانات ألا يودي إلى نتيجة مباشرة، في الوقت الذي يتوقع خلاله اللاعب أنه يكتب قصة جديدة، كذلك الأمر حين يجد اللاعب أن صون قوانين المزرعة أو تعديلها لا يحدث ذاك الفارق الجوهري دائماً.
وفي الواقع، فإن المشكلة الحيوانية هذه تتعلق بجذرها بالتركيز على الخنازير التي تحدثنا عنها. يؤكد ذلك ما أورده بعض المراجعون للعبة، من حيث التصاقها بالكليشيهات ذاتها عن طبيعة الحيوانات، حين تظل الخراف مجرد حيوانات منقادة بشكلٍ أعمى، مرددة البروباغندا ذاتها، وتبقى الكلاب يداً ضاربة فقط، وقس على ذلك، إلى أن يصل اللاعب إلى المراحل التي تكون موافقة الحيوانات أو رفضها لقرارٍ ما مجرد واجهة توحي بتعدد الاحتمالات، لكنها تودي إلى الوجهات نفسها.
يلمح البعض مازحاً، ويربط بين الإخلاص هذا للعبة ومباركة حاملي حقوق ملكية أورويل لها، وكأنها تجسيد للرؤية المتشائمة التي يُفتَرض أن أورويل نظر عبرها إلى العالم. وهنا، يصبح الموضوع عرضةً للتأويل وحسب، نظراً إلى أن أورويل ذاته حاول لاحقاً نفي هذا المعنى للعمل، رافضاً أن يكون مقصده استحالة تصور مستقبلٍ أو عالمٍ أفضل.
ليس هذا الجدل بغريبٍ عن الاقتباسات لأعمال الكاتب الإنكليزي، عبر مختلف الوسائط. إذ إن فيلم الرسوم المتحركة، المقتبس من الرواية ذاتها والمنتج عام 1954، كان قد أثار الأسئلة نفسها حين اكتُشِف أن وكالة الاستخبارات المركزية موّلت إنتاجه وغيّرت نهايته (حين يجتمع الخنازير والبشر)، لتلائم توجهاتها ضمن سياق الحرب الباردة، ويجب أن نقول هنا إن اللعبة تتفوق بهذه النقطة على الأقل.
حقيقةً، ليست تلك النقطة الإيجابية الوحيدة، فكما أشار كثيرون، يضفي عامل الرسوم اليدوية والموسيقى والتعليق شيئاً من الجو المحيط الملائم لهذه التجربة، لكنه يخفت للأسف بسبب تجربة اللعب، ما يجعلنا نتساءل عمّا إذا كان الوسيط الأنجح في هذه الحالة أقرب إلى عملٍ روائي مصور تفاعلي، أكثر من كونه لعبةً، بكل الاختلافات الهائلة بين هذين الوسيطين.