كأس العالم خارج قطر... مباراة بملياري لاعب

05 ديسمبر 2022
أشعلت عاصمة بنغلادش الاحتفالات قبل الجميع (زابد حسنين شودوري/Getty)
+ الخط -

تستضيف قطر بطولة كأس العالم لكرة القدم هذه المرة، لكن ذلك لا يمنع بلدان بعض المنتخبات المشاركة، وأخرى لم يحالفها الحظ، من الانخراط في طقس الاحتفال العلني، وتزيين الأحياء وواجهات المنازل والمحال الشعبية، وكأن كأس العالم مر عبرها. 
تتركز تلك الاحتفالات في الهند وبنغلادش ولبنان ومصر والبرازيل، وغيرها من البلدان التي عبرت عن انتمائها لكرة القدم بلفتات عاطفية مؤثرة، وجلبت كأس العالم إليها حين لم تستطع الوصول إليه، وذلك بتعليق الأعلام أو رفع الشاشات الكبيرة خلال طقوس مشاهدة جماعية، أو عبر فن الغرافيتي والرسم على الأبنية، وغيرها من فنون الشارع غير المكلفة نسبيًا. 
في كولكاتا، وتسمى أيضًا مدينة الفرح، وهي مدينة هندية تتبع ولاية البنغال الغربية، تتدلى الأعلام إلى جانب الغسيل الرطب من كل شرفة، بخاصة تلك البرازيلية والأرجنتينية. فمع أن الهند لم تحظ بتمثيل في أي من نسخ كأس العالم، إلا أنها أبدت تعاطفًا خاصًا نحو دول أميركا الجنوبية المشاركة، وتلونت سماؤها بأشرطة مخططة بالأزرق والأبيض، وأخرى خضراء وصفراء، تشي بولاء الهند الخاص للمنتخبين المرشحين للفوز بقوة هذا العام.
أما على الأرض، فيثابر الرسامون ليلًا نهارًا لإكمال بورتريهات حائطية لرونالدو (البرازيلي طبعًا)، ومن خلفه لاعبون ورثوا بعضًا من مهارته وإبداعه الكروي، وغرافيتي لمارادونا وآخر يقابله لبيليه، فضلًا عن جدارية بالأسود والأبيض تجمع الأخيرين، وفيها يقبل ماردونا رأس بيليه عقب اعتزالهما.  
يلون التجار أبواب المحال الصاج الحديدية في كولكاتا أيضًا، ويديرون شاشاتهم إلى جهة الشارع، بحيث يتسنى للمارة إلقاء نظرة خاطفة على ما يدور على الشاشة. وليس من المستغرب أن يقع أحدهم تحت تأثير سحر الهدف الخاطف، فيوزع على الحاضرين عينات مجانية مما يبيع. أما أطفال المدينة، فتوجهوا إلى تلك الساحات عقب تزيينها، وكأنها ملاعب مهدت لاستقبال بطولاتهم، وسارعوا إلى نطح كرة القدم بالرأس، أو تدويرها على الإصبع، أو تقليد احتفالات لاعبيهم المفضلين عقب تسديد الهدف، فيما يعمل صانعو الطائرات الورقية، في كولكاتا، بكد، لإعداد طائرات ورقية بألوان أعلام البلدان المشاركة في المونديال.

مجسمات لنيمار وميسي ورونالدو في نهر في الهند (فرانس برس)

تولى الفنان الهندي أميتافا داس تزيين الممر المقابل لمحطة باصات بايشنابغاتا في باتولي، بلوحات رسمها لميسي ونيمار ورونالدو، ووضعت رابطة محبي كرة القدم في باتولي شاشة مقاس 55 بوصة، وعددًا من مكبرات الصوت لمحاكاة أجواء الملاعب في قطر، ناهيك عن أصوات الموسيقى التي تصدح بأغاني المونديال الشهيرة.
وفي مدينة كاليكوت الساحلية، نصب المشجعون مجسمات ورقية بطول تسعة أمتار لكل من نيمار ورونالدو وميسي، وسط النهر في ولاية كيرالا المشهورة بمراكب الداو، والتي شُحنت آلاف المجسمات اليدوية الصغيرة منها إلى قطر كسعلة تجارية. لم ينجح العديد من سكان الهند في الوصول إلى الدوحة برفقة مراكبهم المصغرة، فأبحرت تلك الأخيرة وحيدة، بينما تابع قباطنتها عن بُعد رحلة كانوا قد ألفوها جيدًا من قبل؛ إذ عمل الآلاف منهم في مرحلة ما خلال حياتهم في شركات تجارية عالمية في الدوحة، فضلًا عن مساهماتهم الكبيرة في إنشاء ملاعب كأس العالم منذ 2010.  
أما في البرازيل، فكان التعبير عن الاحتفال بكأس العالم أشد صرامة وجدية، وطاول شتى مدنها وأحيائها، معبرًا عن الارتباط الوثيق بين الرياضة الكروية وثقافة بلد السامبا وهويتها، بخاصة في فافيلا (Favela)، وهي الكلمة البرتغالية التي تصف الأحياء العشوائية ومدن الصفيح.

تزينت الشوارع البرازيلية لدعم المنتخب الوطني (فابيو تكسيرا/الأناضول)

رسم البرازيليون تميمة كأس العالم "لعّيب" على طول الشارع، فألبسوها العلم البرازيلي. ولم يتركوا سطحًا إلا ودهنوه بألوان الأعلام المشاركة، ونصبوا مناقل الفحم للشواء في كل زاوية، وفردوا الكراسي على طول الأرصفة، وأعدوا أكشاك المشروبات المتنقلة المجانية، حتى إنهم أقاموا مسابقة لتزيين الشوارع، ونظموا حلقات واسعة للعب كرة القدم في الساحات، تكاد في جودتها تساوي تلك التي تدور في الملاعب الثمانية.
كل هذا بينما تواجه البرازيل أزمة اقتصادية حادة، وأخرى سياسية يحاول البرازيلون تحييدها عن الرياضة، لكنها مع ذلك تتسبب في انخفاض شعبية ألوان العلم البرازيلي الذي اتخذه الحزب اليميني المتطرف رمزًا له. ففي ذات الوقت الذي ينتشر به العلم الأسطوري في شتى أنحاء الأرض، تشكك البرازيل نفسها في قدرة العلم على توحيد طرفيها المتصارعين سياسيًا، وكذلك يمتد الجدل ليشمل اللاعب نيمار نفسه، الذي لم يفضل البرازيليون اليساريون رسم صوره في الشوارع، كونه مقربًا من الحزب اليميني المتطرف.
لم تُضع بنغلادش أي وقت، إذ أشعلت عاصمتها، دكا، الاحتفالات قبل الجميع، وذلك عبر مبادرة شبابية انطلقت قبيل افتتاح كأس العالم في قطر، ونجحت في تحويل ممر KM Das الشهير إلى ممشى رياضي برسومات جدارية ضخمة لنجوم كرة القدم الأشهر. وكذلك، وصل البنغلادشيون الأبنية بعضها ببعض عبر شرائط زينة تمتد مئات الأمتار بألوان أعلام المنتخبات، وباتوا يتنقلون مرتدين قمصان فرقهم المفضلة، التي صنعوها أخيرًا لأنفسهم بعدما فرغوا من صناعتها وتصديرها لمعظم الفرق المشاركة.

غرافيتي لأشهر لاعبي كرم القدم في دكا (سازاد حسين/Getty)

وكما الهند، تطغى ألوان علمي البرازيل والأرجنتين على شوارع بنغلادش، التي لم ينجح فريقها في تخطي المرتبة 192 من تصنيفات "فيفا". ينصب البنغلادشيون الأعلام على ناصيات عالية، ويتباهون بأحجام الأعلام المرفرفة فوق أسطح منازلهم، كما تظهر العديد من تغريدات "تويتر" أعلاماً صنعها حرفيون بنغلادشيون يتجاوز طولها أربعة كيلومترات، أسوة بالفلاح البنغلادشي الذي باع أرضه في المونديال السابق لصنع أطول علم ألماني في العالم بطول 5.5 كيلومترات. يلون البنغلادشيون شاحناتهم أيضًا، ويزينون مركبات التوك توك ذات العجلات الثلاث بألوان علمي البرازيل والأرجنتين، مانحين الأحياء والأسواق المحلية (البازارات) في المناطق الريفية هوية جديدة.
كما أحيت بلدان الشرق الأوسط، مثل لبنان ومصر وسورية، طقس المشاهدات الجماعية، حيث تُنصب شاشة كبيرة في العراء، ويصطف المشجعون أمامها على الأرض مباشرة، أو على كراسي بلاستيكية متنقلة، لا يهم، طالما أنه بوسعهم حضور المباريات خارج أوقات الكهرباء الرسمية، من دون اشتراكات شهرية باهظة، وبتجربة جماعية تمنح لعبة كرة القدم مزاجًا خاصًا. 
يثير احتفال البلدان المذكورة عن بُعد آلاف الكيلومترات مشاعر معقدة في نفس كل من رآه، خاصة أن معظمها جاء بمبادرات ذاتية، تتحدى الأزمات الاقتصادية الحادة ونسب الفقر المرتفعة. تثبت كرة القدم مجددًا أنها لعبة تجلب الفرح للجميع، وقد يكون ذلك كافيًا أحيانًا.

المساهمون