في رحيل كارلوس ساورا: ساحر الصورة يُقاوم فرانكو ويعشق الموسيقى

13 فبراير 2023
ساورا وجيرالدين شابلن يُحضّران لقطةً من Pepperment Frappe (جياني فيرّاري/كوفر/Getty)
+ الخط -

 

"عند وفاة فرانكو، شعرتُ أنّي تحرّرتُ من التزامٍ أخلاقي". في مقالةٍ له، منشورة في "لو موند" الفرنسية (14 يناير/كانون الثاني 2009)، بمناسبة إطلاق العروض التجارية الفرنسية للفيلم الموسيقيّ الثامن، "الهراء" (Fados، إنتاج 2007)، ينقل جان ـ جاك بوزوني عن الإسباني كارلوس ساورا تلك الجملة، المُحمّلة بثقل ثقافي وانفعالي وأخلاقي، يدفع إلى سؤال عن اللاحق على وفاة الديكتاتور فرنشيسكو فرانكو (1892 ـ 1975).

يتضمّن إيراد قولٍ كهذا في المقالة نفسها تنبّهاً إلى انصراف ساورا ـ الراحل في 10 فبراير/شباط 2023، بعد شهرٍ و6 أيامٍ فقط على احتفاله بعيد ميلاده الـ91 (مواليد 4 يناير/كانون الثاني 1932) ـ إلى الموسيقى، بما تحتويه من مغرياتٍ سينمائية، تمنح الصورة المتحرّكة مساحات أوسع في اشتغالاتها الفنية والتقنية والدرامية والجمالية.

ساورا مولودٌ قبل 4 أعوامٍ على بداية الحكم الديكتاتوري لفرانكو، الممتد 40 عاماً، ستكون الفترة نفسها لنموّه واكتسابه معارف وثقافات وتأمّلات، مع عيشه تأثيرات ذاك الحكم القامع. بهذا، يكون ساورا، مع صديقه السينمائي لويس بونويل (1900 ـ 1983)، "رمز سينما إسبانية مُقاوِمة".

وفاة فرانكو لحظة تحوّل في سيرة كارلوس ساورا، الذي "يعتزل" تلك "السينما المقاوِمة"، تاركاً لجيل حركة "موفيدا" الاهتمام بسرد التحوّلات الحاصلة في بلده، في مرحلة ما بعد فرانكو. فـ"موفيدا" حركةٌ ثقافية وفنية إسبانية، ناشئةٌ في نهاية مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، بداية ثمانينيات القرن الـ20، برغبةٍ في تجديد الشباب الإسبان، وإتاحة مجالٍ واسع لظهورِ جُددٍ في الفن والثقافة، ما يُتيح لها المساهمة في تحديث المجتمع الإسباني، ودمجه في أوروبا الديمقراطية.

هذه اللحظة أساسية في انشغال ساورا باهتمامات أخرى، ستكون ثنائية الموسيقى والرقص ـ الفلامنكو خاصة، لكنْ التانغو والأوبرا أيضاً ـ نواة درامية وجمالية لنتاجٍ سينمائيّ مُثير لمتعة المُشاهدة، ومحرّضٍ على اكتشاف جوانب وتفاصيل في ذاك الفنّ وعنه، عبر الصورة والمونتاج والاشتغالات السينمائية المختلفة.

هذا كلّه حاضرٌ في سيرةٍ، لها فروع قليلة خارج السينما، كالتصوير الفوتوغرافي (له كتاب بعنوان "كارلوس ساورا، مُصوِّر، أعوامٌ من الشباب، 1949 ـ 1962"، صادر عن "منشورات غالاكسيا غوتنبيرغ"، 2000)، ومؤلّفات عدّة. في السينما، يُذكر مراراً أنّ Peppermint Frappe (إنتاج 1967) و"تربية الغربان" (Cria Cuervos، إنتاج 1976) سبب شهرته خارج بلده، زمن حكم فرانكو: فيلمان يعكسان أحوال اجتماع وبيئة وأفرادٍ، في بلدٍ يختنق بممارسات سلطوية عنيفة. رغم أنّهما غير مباشرَين في قراءتهما السينمائية تلك الأحوال، تكشف المواربة الفنية والدرامية والجمالية وقائع حياتية، عبر شخصياتٍ تتصارع مع ذواتها والآخرين، وبعضها يُدفَع إلى أفعالٍ تتجاوز المتوقّع والمقبول.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

الرغبة الشخصية في تصوير سينمائي للموسيقى والرقص، موجودة فيه منذ بلوغه 20 عاماً. يذكر بوزوني أنّ ساورا يُصبح المُصوّر الفوتوغرافي الرسمي لـ"المهرجان الدولي للموسيقى والرقص في غروناد"، وأنّ المُثير لانتباهه كامنٌ في بروفات الأعمال المشاركة، أكثر من عروضها. يقول ساورا: "العلاقة بين الجهد البدني المكثّف والإيقاع والعاطفة مؤثِّرةٌ فيّ" للغاية: "أعتقدُ أنّي واثقٌ، لفترة طويلة، من إنجازي فيلماً موسيقياً ذات يوم". أول خطوة في هذا المجال متمثّلة بـ"عرس الدم" (1981)، الذي سيكون أول "ثلاثية الفلامنكو"، المتضمّنة لاحقاً "كارمن" (1983) و"ساحر الحبّ" (1986).

إذْ يستند الأول إلى مسرحية فديريكو غارسيا لوركا (1898 ـ 1936) بالعنوان نفسه (1931)، فإنّ الثاني يشتغل على نسخة إسبانية من عمل الفرنسي بروسْبِر ميريميه (1803 ـ 1870)، بالعنوان نفسه أيضاً (1847)، والثالث يروي حكاية حبّ وتقليدٍ غجري، وزواج غير مرغوبٍ فيه.

اشتغالاته السينمائية الموسيقية، إنْ يصحّ تعبيرٌ كهذا، غير لاغيةٍ ذاك الفصل "الفرانكوي" في حياته: "إنّه أحد الذين يناضلون من أجل الحريات، بفضل روح الدعابة المرّة، والمُدمِّرة للنظام"، كما يقول عنه الممثل الإسباني خوان دييغو (1942 ـ 2022). هذا غير شاملٍ كلّ نتاجه، لأنّ اشتغالات أخرى له تعكس سحره في ابتكاراتٍ سينمائية مختلفة، لن يكون الرقص والموسيقى وحدهما دليلٌ عليها. فساورا "سينمائي اللعبة والخيال"، كما يُوصف، يمتلك براعة صُنع الجماليات، عاملاً على جعلها، مرة تلو أخرى، أكثر إتقاناً وتطوّراً في اكتشافات الصور المنبثقة من الكاميرا (السينمائية أولاً، لكنْ الفوتوغرافية أيضاً).

في نتاجاتٍ عدّة له (إنّه غير متوقّف عن العمل، حتى اللحظات الأخيرة من حياته)، يظهر الوثائقيّ في سرده حكاياتٍ وتصويره حالاتٍ وانفعالات. كأنّ أسلوبه السينمائي نتاج مزيج جمالي بين الوثائقيّ والشعريّ، خاصةً في أعماله الموسيقية، مع تنبّه دائم إلى مسارات شخصياته ومصائرها، ومنها شخصيات غارقة في حرمان متنوّع الأشكال: "إنّه مُصوّر شخصيات بورجوازية غالباً، يُعذّبها ماضيها، وتكون بين واقع وخيال" (مقالة وداعية منشورة في "لو موند"، 10 فبراير/شباط 2023).

المساهمون