في رحيل صانع البهجة

22 مايو 2021
سمير غانم: تبقى البساطة لصيقةً به في حياته كلّها (عمرو مراغي/ فرانس برس)
+ الخط -

 

تبدو البساطة أبرز سمةٍ في سيرة المصريّ سمير غانم (1937 ـ 2021)، حياتياً ومهنياً. بساطة في أمور شتّى، تدفعه غالباً إلى اشتغالاتٍ تُشكِّل فصلاً أساسياً من الكوميديا الفنية العربية، وإلى علاقاتٍ موصوفة، عادة، بالهدوء والسلاسة، رغم أنّ فيه غيرةً من نجاحات آخرين، بحسب قولٍ نقديّ، لكنّه يُحدّد تلك الغيرة نفسها بإحساسٍ لا بموقفٍ حاسم وانفعالٍ قاسٍ.

جيله، المُكوَّن منه ومن جورج سيدهم (رفيقه في "ثلاثيّ أضواء المسرح"، مع الضيف أحمد) وعادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي، يُعتَبر صلة وصلٍ بين جيلين، أوّلهما سابق عليه وثانيهما لاحق به، سيكون فؤاد المهندس (من الجيل السابق عليه) أستاذاً له، باعترافه هو: "هذا هو جيلي. جيل "الأحبّة الأعداء". فيه عداوة مُخبّأة بسبب غيرةٍ، مع أنّه لم تحدث لي غيرةٌ من أحدٍ. (هذا) إحساسٌ لا غيرة" ("سمير غانم إكسير السعادة" لطارق الشناوي، مطبوعات "مهرجان القاهرة السينمائيّ الدولي الـ 39"، الطبعة الأولى، 2017).

والبساطة، إذْ تبقى لصيقةً به في حياته كلّها، تنسحب من يومياته وعلاقاته المختلفة، الفنية وغير الفنية، إلى نمطِ اشتغالٍ سينمائيّ خصوصاً. فرغم كثرة الأفلام المُشارِك فيها، أدواراً ثانوية في مرحلة أولى، تليها بطولة أساسية، يندر اختيار عملٍ يمتلك مقوّمات غير مرتبطة بالكوميديا، التي ستبقى منضوية في إطار الإضحاك المباشر، وهذا فنٌّ قائمٌ بحدّ ذاته، يجعله غانم، في أكثر من نصف قرنٍ بأعوامٍ قليلة، حاجةً يومية لأناسٍ، يريدون أنْ يضحكوا فقط.

بهذا، يبتعد غانم عن أفراد جيله، مع جورج سيدهم، الذي سيُشارك في أعمالٍ غير كوميدية، عددها قليلٌ للغاية، بينما يذهب سعيد صالح إلى إضحاكٍ، سيمتلئ أحياناً عدّة بقهرٍ ومرارة، بينما سيُقدِّم يونس شلبي نكاتٍ ومواقف، في بعضها شيءٌ من قسوة العيش والخيبات.

وحده عادل إمام سيُنجز صنيعاً سينمائياً (ومسرحياً) يرتكز على الكوميديا، وينفتح كثيراً على حالاتٍ ومسائل وتفاصيل، في السياسة والقضاء والاجتماع والخراب، مُحرِّراً نفسه، في سبعينيات القرن الـ20 وثمانينياته على الأقلّ، من وفرة الكوميديا فيه، قبل انزلاقه لاحقاً في متاهة النجومية القاتلة.

 

 

سمير غانم ـ الذي يعترف بذكاء إمام في تجاربه وخياراته الدرامية والجمالية والتمثيلية ـ يُفضِّل البقاء في دائرة الكوميديا البحتة، التي يستلّ منها سيرة سينمائية متكاملة. البساطة تساهم في هذا، من دون أنْ تنتقص من قيمة الكوميديا، لكونها جزءاً أساسياً من فنّ الإضحاك وإثارة البهجة، وهذا يحصل أيضاً في حواراتٍ تلفزيونية عدّة له، يظهر فيها "ممثلاً كوميدياً أصيلاً".

في الكتابة عن سمير غانم، يصعب التغاضي عن الصناعة الكوميدية في السينما المصرية. السابقون عليه، كإسماعيل ياسين وعبد المنعم مدبولي وفؤاد المهندس، سيبقون طويلاً في ذاكرة الترفيه البحت، والسعي، أحياناً، إلى تحميله شيئاً من وقائع حياتية. عجز ياسين عن مواكبة تطوّرات السينما وتبدّلاتها، يتخلّص منه مدبولي والمهندس. فالأول متمكّن من أدوارٍ غائصة في أسى ومواجهات وتحدّيات، والثاني فنانٌ في تطويع الكوميديا، وجعلها مرايا بيئة وأحوالٍ. الجيل اللاحق بجيل غانم لديه بعض هذا، خصوصاً مع نجاح الموجي وأحمد بدير، أبرز ممثّلَين كوميديَّين يُتقنان الخروج من الإضحاك البحت إلى أدوارٍ، تُثير ضحكاً ممزوجاً بشقاءِ حياةٍ وبؤس عيشٍ، وأخرى غارقة في الدراما.

مع سمير غانم، تُصبح الكتابة النقدية صعبة، لا لأنّ أفلامه كوميدية (الكوميديا فنّ صعب)، بل لأنّ سيرته السينمائية منضوية، بالغالبية الساحقة من أفلامه، في إطار واحدٍ، يقبله غانم ويبرع فيه، مع إضافاتٍ يُصرّ نقّادٌ على وجودها في نتاجاته ومساره، بينما يعجز آخرون عن تبيانها بوضوح. وإذْ يرى بعضُ هؤلاء أنّ في أداء غانم نوعاً من التهريج، والتهريج بدوره فنّ حاضرٌ في الكوميديا؛ يتمكّن غانم ـ بالبساطة التي تصنع حياةً واشتغالاً وبهجة ـ من إيجاد توازن بين التهريج والإضحاك، مُخفّفاً من الأول لمصلحة الثاني، بجعل الأول مُنطلقاً أدائياً، يخفّ وهجه تدريجياً في المسار التمثيلي.

غياب سمير غانم يصنع فراغاً، رغم شيخوخةٍ تُبعده، مؤخّراً، عن اشتغالٍ يعتاده بوفرةٍ. غيابٌ وفراغٌ كبيران، بقدر البساطة التي يُمكن أنْ تكون عنواناً آخر للإبداع.

المساهمون