فنّ ضد المستعمر: سنوات تدجين الأغنية المصرية

27 يونيو 2021
كان لظهور الشيخ إمام دور أساسي بتكريس التغيير في الأغنية المصرية والعربية (Getty)
+ الخط -

الحقيقة أن وضع تأريخ مفصل ودقيق للأغنية المصرية ضد الاستعمار يبدو غير ممكن بشكل كامل، لأسباب كثيرة بينها وجود أغانٍ كثيرة غنيت في المسارح وبين الناس من دون أن تجد طريقها نحو التسجيل، وبالتالي اختفت من الأرشيف الموسيقي. لكن يرتبط التوثيق الشعبي المصري لبداية الأغنية المناهضة للاستعمار بسيد درويش.

أيقونة ثورة 1919 وملهم الجماهير المصرية في الوقوف في وجه البريطانيين. لكن مع السنوات التي تلت رحيل سيد درويش، وتطور الأحداث في مصر وصولاً إلى سقوط الملكية، باتت الأغنية المناهضة للاستعمار تسمّى "أغنية وطنية"، وباتت تسجل وتصوّر وتغنى برعاية أجهزة الدولة التي تخصص لها ميزانيات ضخمة، وتضمّ في صفوفها نجوم الأغنية العربية. ولعلّ المثال الأبرز يبقى أوبريت "الوطن الأكبر" التي شارك فيها عبد الحليم حافظ، ووردة، وصباح، وشادية، ومحمد عبد الوهاب.

هذه المشاريع الفنية، تعاملت مع مقاومة الاستعمار والاحتلال بشكل رومانسي أقرب إلى السذاجة في عبارات مثل "جنة بتضحك للي يسالم، وجحيم ساير على أعاديها"، و"شوفوا بيروت فين بعد العدوان، الاستعمار فين والطغيان". بقي الكلام يدور حول العدو الغامض، الذي لا يسمّى باسمه، في مواجهة الأمة العربية المنتصرة دائماً.

الكلام نفسه سيعاد ويعلك في أغانٍ أخرى، إذ اعتبر هذا الخط هو الوحيد المقبول في الأغنية الوطنية، خصوصاً أن ممولها وراعيها في كل الحالات كان النظام: حماسة شديدة، ترافقها رومانسية التضحية والموت، والترحيب بالمعارك "ويا بخت مين يشارك"، في استكمال للخطاب الرسمي الذي صوّر الأعداء بصورة الضعفاء، والعرب بصورة المنتصرين دائماً. لكن تماماً كما اصطدم العرب بالحقيقة بعد نكسة عام 1967، بدا أن عالم الأغنية يتّجه نحو تغيير خطابه. وكان لظهور ثنائي الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، دوره الأساسي في تكريس هذا التغيير، تحديداً مع أغنية "الحمدلله خبطنا" التي كانت أول أغنية مصرية توصّف الواقع بحقيقته، من الهزيمة إلى المسؤول، بإطار كئيب يليق بما حصل عام 1967.

ورغم محاولات النظام الحفاظ على نفس النمط الغنائي مع نفس الفنانين مثل أغينة "عدى النهار" لعبد الحليم حافظ، بدا أن المشهد تغيّر للأبد. في تلك الفترة تحديداً، أي الأشهر التي تلت الهزيمة، حصل الانفصال الكبير بين "الأغنية الوطنية" و"الأغنية المقاومة"، و"الأغنية الشعبية".

الأغنية الوطنية بقيت ملتزمة مستخدمة الشاعرية والرومنسية الساذجة في محاولة لإلهاب حماسة الجماهير، وهي الأغاني التي احتلت الإذاعات. أما الأغاني المقاومة "غير الملتزمة" فكانت تلك الواقعية الفجة، والمباشرة بمخاطبتها الرأي العام بحقيقة ما يحصل. لتكون الأغاني الشعبية هي الفئة الثالثة التي ألزمت بالابتعاد نهائيا عن السياسة وخلق أجواء من الفرفشة والسلطنة عند المستمع (أغنية كعب الغزال لمحمد رشدي التي تحولت إلى "هيت" بعد الهزيمة). هكذا لم يتطرق أي من أحمد عدوية، أو محمد رشدي، ومحمد عبد المطلب، وكل نجوم الأغنية الشعبية إلى أية مشاكل سياسية علماً أن الطبقة التي يخاطبونها هي الطبقة المطحونة والمجندة إجبارياً في الخدمة العسكرية والمعنية مباشرة بتداعيات الوضع السياسي.

وبقي الحال على ما هو عليه من نهاية الستينيات حتى أوائل الألفية الجديدة عندما قرر شعبان عبد الرحيم وإن بشكل بدا كوميدي وقتها، كسر القالب وأداء "أنا بكره إسرائيل"، لتكون أول أغنية شعبية تخاطب العدو باسمه. طبعاً استخدم "شعبولا" الحيلة السحرية في تحويل الأغنية من كره إسرائيل إلى تأييد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، في خطوة جعلتها لا تخضع لأي رقابة. وأكمل عبد الرحيم في السياق نفسه مع أغنية "يا عم عربي".

للمرة الأولى بدا كأن هذه الأغاني تخاطب سياسياً شريحة من المصريين بقيت مهمشة وخارج دائرة استهداف الأغنية السياسية. إذ طيلة عقود استهدف الخطاب النظام وإنتاجاته المواطن المصري الـstandard أي محدود الدخل لكن ليس تحت خط الفقر.

بقي الوضع مستقرًّا موسيقياً بالتزامن مع إنتاج بعض الأغاني العربية أو المصرية، والتي اختارت هذه المرة لعب دور الضحية على عكس رواية سنوات ما قبل الهزيمة ("وين الملايين" و"الحلم العربي" و"الضمير العربي"... إلى آخره..)، وهي الأغاني التي وجدت صداها في مصر، وإن لم تكن على لسان أو بأصوات مصرية.

نقفز سريعاً إلى العدوان الأخير على غزة وإلى الذائقة المصرية. إلى ماذا استمع المصريون؟ إلى ضبور وشب جديد، وأغنية "إن أن"، للمرة الأولى تنجح أغنية فلسطينية في التحول إلى ما يشبه نشيدا داخل مصر. لا تزال الأغنية "ترند" حتى اليوم وتواصل تحقيق ملايين المشاهدات والاستماع على مختلف الوسائط. لماذا؟ المختلف في الأغنية بالنسبة للمستمع المصري هو تسمية كل طرف وكل واقع باسمه، وبات شتم العدو بشكل مباشر "متاح بقى، كمان متاح سب العدو بشكل مباشر وتفصيل الوضع العام بواقعية تامة".

كذلك فإن هذا النوع هو الأكثر شعبية حالياً في مصر والعالم العربي، وهو ما ساهم في انتشار الأغنية، ووصولها لشريحة كبيرة جداً كانت مغيبة عن الملف الفلسطيني في مصر. وقد انعكس من خلال التفاعل الكبير لجيل الألفية مع التطورات في غزة والقدس المحلتة. ولعلّ العامل الآخر الذين كان له دور محوري في جعل التراب يتصدّر مشهد الغناء ضد الاحتلال، هو أنّ هذا الـgenre تحديداً يحتمل الهجاء، والهجوم واستخدام الشتمية، وإحدى أبرز سماته تسمية العدو باسمه، سواء كان عدواً فردياً نتيجة خلاف شخصي، أو عدوّ بحجم كيان محتل مثل إسرائيل.

المساهمون