انفرج الستار، وصفق جمهور مسرح معهد الموسيقى في القاهرة، تحيةً للفرقة القومية للموسيقى العربية. جلس الحاضرون ينتظرون بدء فقرات الحفل. استهلت الفرقة ليلتها بعزف موسيقى "عزيزة" لمحمد عبد الوهاب.
كان العزف إحماء معتاداً قبل الدخول إلى البرنامج الغنائي، بأصوات مطربي الفرقة ومطرباتها الذين تتابعوا على المسرح لتتوالى فقرات الحفل بهذا الترتيب: "أهو ده اللي صار" لسيد درويش، و"في قلبي غرام" لعبد العظيم محمد، و"على بلد المحبوب" لرياض السنباطي، و"تخونوه" لبليغ حمدي، و"إمتى الزمان يسمح يا جميل" لعبد الوهاب، وموسيقى "توتة" لفريد الأطرش، و"بحلم بيك" لمنير مراد، وختام "اسأل روحك" لمحمد الموجي.
نال الحفل استحسان أغلب من حضره، كما نال تغطية مقبولة من المواقع الصحافية، وصرح المنظمون للصحف بأن تذاكر الحفل نفدت قبل ثلاثة أيام من موعد العرض. عوامل لا يعني اجتماعها إلا نجاح تلك الليلة الفنية التي قدمت باقة متنوعة من روائع "الزمن الجميل".
لكن هذا الجمهور الذي يمنح رضاه بسهولة، في كل مرة يحضر فيها هذا النمط من العروض الموسيقية، لا يعلم أن مستويات أعلى وأعمق من الجمال والطرب والتثقيف تفوته بسبب تلك الأساليب في العرض والأداء. وهي أساليب تفتقد كل العناصر التي يجب أن تتوافر في أي عمل موسيقي أو غنائي يمكن أن ننسبه إلى "التراث" أو إلى "الشرقية" أو إلى "الكلاسيكية"، بدءًا من اختيار القطع اللحنية، ومروراً بترتيبها، وعلاقتها بعضها ببعض، وانتهاءً بطريقة أدائها عزفاً أو غناءً أمام الجمهور.
يتحير المهتم بالموسيقى الشرقية الكلاسيكية في فهم طريقة اختيار الأعمال التي ستقدم ضمن حفل عنوانه "الموسيقى العربية"، ومن فرقة أنشئت من الأصل للحفاظ على التراث الغنائي المصري. لا يمكن أن تندرج تلك الأعمال تحت قاعدة، لا زمنياً، ولا شكلياً، ولا مقامياً. ومن الواضح أن مفاهيم "الكلاسيكية" و"الأصالة"، بل وحتى "الزمن الجميل"، قد اتسعت وامتدت في أذهان القائمين على تلك الحفلات، حتى وصلت إلى أوائل الثمانينيات. وصار من الطبيعي والمعتاد، أن يتضمن برنامج الحفل الواحد أعمالاً لمحمد عثمان ومحمد فوزي وحلمي بكر، من دون أي شعور بالتنافر أو القلق أو الاضطراب؛ فكلها "أغانٍ جميلة" و"مزيكا حلوة".
منذ زمن بعيد، تفتقد العروض الموسيقية "الكلاسيكية" الوحدة العضوية. يمكن للمستمع المهتم أن يمحو من ذهنه التفكير في فرصة حضور حفل مخصص لطرب عصر النهضة، في قوالبه الغنائية والآلية الأساسية. ولا يتذكر أحد أن الفرقة القومية للموسيقى العربية قد قدمت يوما ما يُعرف في تاريخ الطرب العربي بـ"الوصلة"، وهي مجموعة من القوالب الغنائية والآلية، يجمعها مقام واحد. كما لا يتذكر أحد أنها قدمت وصلة الموشحات، التي تضم مختارات من هذا القالب تتحد مقاما وتختلف إيقاعا. ولا ريب أن هذه الطريقة في العرض، تتسم بقدر كبير من الاتساق والتناسب، ما يمنح المستمع شعوراً عميقاً بالراحة والانسجام، وهما من شروط الفوز بنشوة الطرب.
عام 1967، نشأت فرقة الموسيقى العربية، التي تُعرف الآن باسم "فرقة عبد الحليم نويرة"، وقد اهتمت هذه الفرقة اهتماماً كبيراً بتوثيق التراث الغنائي الكلاسيكي، وموروث عصر النهضة، لا سيما من الأدوار والموشحات. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلتها الفرقة بقيادة نويرة، فإنها تعرضت لنقد شديد خلال العقدين الماضيين، إذ رأى كثير من المهتمين بالتراث الموسيقي، أن أداء الفرقة اتسم بقدر كبير جدا من التنميط والقولبة والصرامة الحداثية التي نزعت مساحة الحرية المميزة للقوالب الكلاسيكية، ولا سيما الأدوار، التي تفتح بابا واسعا أمام المطرب للتصرف وإظهار المقدرة، مع الحفاظ على هيكل اللحن.
ويرى المعترضون على نويرة أن ما فعله لا يتجاوز أن يكون تدوينا صوتيا لأصل الألحان، لا يكفي ولا يصلح لإظهار حقيقة الطرب الكلاسيكي الموروث عن "الحقبة الحامولية". لكن حتى هذا الذي لا يعجب المعترضين، صار شيئا من الماضي، فالفرقة اليوم تقدم الخليط العشوائي الذي يجمع المتنافرات، ويقرن الصغار بالكبار.
وعام 1989، ولدت فرقة أخرى باسم "الفرقة القومية للموسيقى العربية"، فسارت مبكراً في خط العشوائية الفنية، والاختيارات التي لا يربطها رابط، حيث يتجاور سيد درويش مع حلمي أمين، وداود حسني مع منير مراد. والآن، لا أحد يعرف ما هو الفرق بين "نويرة" و"القومية"، إذ إن الفرقتين تتنافسان على نمط متكرر من العشوائية والارتباك، والدوران مع عدد محدود من أسماء "نجوم الطرب".
لكن قائمة الفرق الموسيقية التابعة لدار الأوبرا المصرية تتضمن اسماً لافتاً، هو "فرقة الموسيقى العربية للتراث". لفظة "التراث" مغرية، وتعطي انطباعاً سريعاً بأن الأمر مختلف. لسنا أمام فرقة الموسيقى العربية "نويرة"، ولسنا بصدد الفرقة القومية للموسيقى العربية. إنها فرقة جعلت التراث عنواناً لها. لنذهب معا إلى آخر حفل أقامته الفرقة، ولنطالع فقرات برنامج الحفل كما نشرتها معظم الصحف والمواقع المصرية، لنجده هكذا:
"موسيقى ليالي زمان" لعبده داغر، وموشح العيون الكواسر من التراث القديم، و"قلبي ومفتاحه" لفريد الأطرش، و"عايز جواباتك" لرياض السنباطي، و"المراكبية" لداود حسني، و"أبو سمرة السكرة" لمحمد قنديل، و"عنابي" لحلمي أمين، و"دور ما هو إنت اللي جايبه لروحك" لزكريا أحمد، و"ياللي سامعني" لكمال الطويل، و"علي عيني" لحلمي بكر، و"البحر بيضحك ليه" لمحمد علي أحمد، و"يا سارق من عيني النوم" لمنير مراد، و"العوازل ياما قالوا" لمحمد عبد الوهاب، و"ع الحلوة والمرة" لمحمود الشريف، و"أمانة عليك" لكارم محمود.
15 قطعة أغلبها من الصعب جداً، بل من المستحيل، نسبها إلى "التراث"، مع عشوائية لا يمكن تبريرها ولا تفهمها. هل يمكن لأحد في العالم أن يجد أي صلة بين دور من ألحان زكريا وبين أغنية لحنها عبد الوهاب لنجاة؟ هل يمكن لأحد يفهم كيف اجتمع داود حسني مع منير مراد؟ هل يمكن لذمة فنية- مهما اتسعت- أن تعتبر ألحان حلمي بكر تراثاً؟
وحتى عروض "كلثوميات" أو "وهابيات"، لم تسلم من عشوائية الاختيارات وضعف الأداء، ويبدو أن القائمين عليها يظنون أن انتماء الأغنيات كلها لمطرب واحد يكفي لخلق وحدة واتساقا بين فقرات الحفل، وليس الأمر كذلك، فالمحافل المعنونة بـ"كلثوميات" تغلب على اختياراتها ألحان عقد الستينيات، وبدرجة تقترب من 80%.
وعلى الرغم من أن ألحان محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي للسيدة لا تمثل أكثر من 6% من أغنياتها، فإن من يكرر حضور محافل الكلثوميات قد يظن أن الرجلين استحوذا على 60% من أغاني أم كلثوم، وأن النسبة الباقية توزعت على السنباطي والقصبجي وزكريا وداود حسني وأبو العلا محمد وأحمد صبري النجريدي.
ومن الواضح أن هذه الفرق التي تزعم حرصا على التراث، لا تبذل أي جهد في تعريف الجمهور بألحان غير شائعة. ويمكن بمراجعة سريعة لبرامج محافل "كلثوميات"، خلال السنوات الخمس الماضية، أن يتأكد المهتم من أن هذه الفرق تختار فقراتها بطريقة "ما يطلبه المستمعون"، وميلها إلى الشهير شعبياً واضح جداً، حتى لو أدى هذا إلى تكرار أغنية ما عدة مرات خلال عام واحد، فهذا أفضل- برأيهم- وأسهل من المجازفة بمفاجأة الجمهور بما لم يعتده.
هذا يعني ضمنياً التخلي عن الدور التنويري التثقيفي للأوبرا ومسارحها وفرقها التي ثبتت فقرة في ذيل كل خبر ترسله إلى الصحافة عن أنشطتها، وتقول فيها نصاً: "الجدير بالذكر أن الفرقة تأسست بهدف إحياء تراث الموسيقى العربية وتقديم الأشكال التراثية والقوالب الغنائية والموسيقية المختلفة لجمهور ومتذوقي الموسيقى العربية مثل الموشح، القصيدة، الدور، الطقطوقة، المونولوج والألحان المسرحية".
والحقيقة أن هذه الطريقة في العرض، ليست إلا إماتة للتراث لا إحياء له، وأضرارها ومخاطرها أعمق من أن تدرك بنظر عاجل، وأشد أشكال خطورتها هو تدثرها بدثار الحفظ والصيانة والرعاية، والظهور بمظهر الحارس الأمين، في مواجهة ما يُطلقون عليه "الفن الهابط"، ومنح مرتادي مسارح الأوبرا شعوراً زائفاً بالرقي والتحضر، والاستعلاء على "المهرجانات".
والمستمع "التراثي" الحقيقي لا يقلق من الغناء الجماهيري الشعبوي على الغناء الكلاسيكي التراثي، فهما صنفان لا يتنافسان، ولا يشكل أحدهما خطراً على الآخر، وإنما تأتي الخطورة والمضار من تقديم صورة مشوهة ومزيفة لقوالب الغناء الطربي القديم، وتتضاعف المخاطر والمضار، إذا جاء التشويه والزيف ممن وظيفته الحفظ والرعاية.