غالباً ما يُنظر إلى سويسرا على أنها دولة مُحايدة ذات تاريخ نظيف، بعيدةً كل البُعد عن الماضي الاستعماري لأوروبا. غير أن هناك من يرون خلاف ذلك. خلال السنوات القليلة الماضية، تزايد الاهتمام بتاريخ سويسرا غير المروي، ومساهمتها في المد الاستعماري الغربي منذ القرن السادس عشر. وبفضل جهود العديد من الباحثين، تكشفت مع الوقت الصفحات المُظلمة من تاريخ هذا البلد الغني، بعد عقود طويلة من الإنكار والنأي عن الجرائم التي ارتُكبت أثناء الحقبة الاستعمارية. ورغم أن هذه الدولة الواقعة وسط أوروبا لم ترسل جيوشاً إلى خارج حدودها، ولم تكن لديها أي مستعمرات خلال تلك الحقبة، فإنها ساهمت مُباشرةً في معاناة الشعوب المُستعمَرة.
يرى المؤرخ والناشط السويسري، هانز فاسلر، أنه على أبناء بلده إعادة النظر في ماضيهم، والاعتراف بالدور الذي لعبته العبودية والاستعمار في جعل سويسرا واحدة من أغنى دول العالم. يقول فاسلر إن الثروة التي تتمتع بها سويسرا اليوم دفعت ثمنها الشعوب التي تعرضت للاستعمار والاستغلال اللذين مارستهما الشركات السويسرية.
لذا، يقدم المتحف الوطني في زيورخ أول نظرة شاملة ومتعددة الجوانب على ماضي سويسرا الاستعماري. يستند المعرض الذي يستضيفه المتحف حتى 19 يناير/كانون الثاني المقبل إلى العديد من الدراسات التي أجراها باحثون حول هذا الموضوع، والمدعومة بالصور والوثائق والأعمال الفنية والمتعلقات الشخصية. يكشف الباحثون من خلال هذا المعرض أن هناك جنوداً وأصحاب مزارع وموظفين حكوميين ورجال دين سويسريين كانوا متورطين في العديد من الجرائم الاستعمارية. يكشف العرض البصري كيف جُلب المئات من العبيد للعيش في سويسرا عن طريق المواطنين السويسريين الذين أصبحوا أثرياء بفضل تجارتهم في البضائع الاستعمارية.
المعرض الذي يقدم نظرة شاملة ومتعددة الجوانب للتاريخ الاستعماري لسويسرا يتألف من جزأين. يشمل الأول عدداً من الأمثلة حول كيفية انخراط الأفراد والشركات والمؤسسات السويسرية في الحركة الاستعمارية منذ القرن السادس عشر. يغطي هذا الجزء النطاق الجغرافي من أميركا الشمالية والجنوبية إلى آسيا مروراً بأفريقيا. يوضح المعرض كيف شارك عدد من الشركات والأفراد السويسريين في تجارة الرقيق مباشرةً عبر المحيط الأطلسي، وجمعوا ثروة طائلة من التجارة في المنتجات الاستعمارية، وتسخير الشعوب المستعمرة للعمل في المزارع والأراضي المملوكة لهم. ساهمت الشركات السويسرية في تجارة الرقيق عبر الاستثمارات المالية في السفن التي حملت آلاف الأفارقة إلى الأميركتين، إذ كانت المصارف الكبرى في مدينتي برن وزيورخ من أكبر المُساهمين في شركة تجارة الرقيق البريطانية (South Sea Company).
يكشف المعرض كيف لعب المبشرون السويسريون دوراً في ترسيخ هذه الأوضاع حول العالم، وكيف أسسوا مستعمرات استيطانية واستولو على أراضي السكان الأصليين لزراعتها مستغلين عمالة العبيد. ويُسلط الضوء على الدور الذي لعبه آلاف المرتزقة السويسريين الذين دفعهم الفقر أو التعطش إلى المغامرة للخدمة في الجيوش الأوروبية، وكيف ساهموا في عديد من الغزوات الاستعمارية، وسحقوا انتفاضات الشعوب الأصلية.
لا يتوقف الأمر عند المساهمة المُباشرة في الاستعمار وتجارة العبيد وحسب، إذ وضع العلماء والخبراء السويسريون معرفتهم تحت تصرف القوى الاستعمارية، ووُظّفت الأبحاث العلمية لتبرير النظام الاستعماري. لعبت النظريات العنصرية التي وضعها علماء سويسريون دوراً محورياً في تشكيل تصورات الأوروبيين عن سكان المستعمرات. في جامعتي زيورخ وجنيف، صاغ العلماء نظريات عنصرية تبنت فكرة تفوق العرق الأبيض، واكتسبت هذه النظريات مصداقية دولية وساعدت في إضفاء الشرعية على النظام الاستعماري.
يتناول الجزء الثاني من المعرض إرث الاستعمار وأثره على سويسرا الحالية، ويكشف عن آثاره التي لا تزال قائمة، مثل التفاوت العالمي في الثروة والقضايا البيئية. يستكشف هذا الجزء أيضاً ما يعنيه هذا التراث الاستعماري لسويسرا في الوقت الحاضر.
شمل المعرض تنظيم عدد من جلسات الحوار والنقاش حول العديد من القضايا الإشكالية، كالمسؤولية الأخلاقية للدولة السويسرية الحالية، والحاجة إلى ضرورة تغيير الشوارع أو هدم الأنصاب التذكارية للأشخاص الذين لعبوا دوراً مُباشراً في الاستعمار. يضم المعرض صوراً فوتوغرافية لعلماء ومستكشفين وسياسيين وتجار سويسريين، ومتعلقات مختلفة، بدءاً من العاج الذي كان يمثل تجارة رابحة، إلى القبعات التي كان يرتديها السويسريون في هذه المستعمرات كغيرهم من الأوروبيين لتمييزهم عن السكان الأصليين.
يُذكر أن هناك نشاطاً متنامياً منذ بضع سنوات من أجل تطهير ميادين وشوارع المدن السويسرية من الأسماء والمعالم المرتبطة بشخصيات لها ماض ملوث بتجارة العبيد أو استغلالهم. بين هؤلاء مثلاً لوي بورتاليس الذي كان صاحب مزارع شاسعة في جزر الأنتيل، ويحمل المستشفى المحلي في مدينة نوشاتل اسمه إلى اليوم. في المدينة نفسها، اضطرت البلدية تحت ضغط الناشطين إلى وضع لوحة توضيحية أسفل تمثال دافيد دوبوري الذي أمسى ثرياً بسبب تجارته في العبيد. تحمل اللوحة تذكيراً بضحايا العبودية وإعادة وضع الدور الذي لعبه دوبوري في إطاره الصحيح. وتعالت الأصوات، أخيراً، لإزالة تمثال التاجر والمصرفي ألفريد إيشير من أمام المحطة الرئيسية للقطارات في مدينة زيورخ، وكانت عائلة إيشير قد راكمت ثروتها بفضل عمل العبيد في مزارعها في أميركا الشمالية.