فرقة أوسبري في... روك غزاوي

11 اغسطس 2024
فرقة "أوسبري في" (فيسبوك)
+ الخط -

ينظر كثير من المهتمين بالمشهد الموسيقي في غزة إلى تجربة فرقة "أوسبري في" بقدر كبير من الإعجاب والدهشة، فمؤسسو الفرقة المتخصصة في أغاني الروك والميتال أصروا على المضي في مهمة شبه مستحيلة من أجل تقديم هذا النمط غير المعتاد في المجتمع الغزاوي المحافظ، وفي ظروف تلقي بظلال اليأس على كل من يفكر في شراء آلة موسيقية، أو يحاول أن يتعلم العزف عليها، أو يفكر في السفر للدراسة أو اكتساب الخبرة. وهي العقبات نفسها التي قد تواجه من يستهدف إنشاء فرقة للغناء التقليدي أو الإنشاد الديني والموشحات. لكن العقبات والصعاب تشتد وتتضاعف حين يكون الغناء غربياً، وبآلات غربية، وبلغة غير العربية، وبأسلوب وطريقة غير معهودة بين الجمهور في قطاع غزة.

فالفرقة تهدف إلى توصيل رسالة مؤثرة ومفهومة تحمل إلى شعوب العالم "صرخة غضب في مواجهة الظلم"، مع تأكيد أن شعب فلسطين يتطلع إلى السلام والعدل والحرية، وأن غزة لديها ما تقدمه إلى العالم بعيداً عما يفرض عليها من حروب ودمار.

وعلى غير المعتاد، لم يكن بين مؤسسي الفرقة متخصص واحد في الموسيقى. راجي الجرو، المطرب الرئيسي للفرقة يعمل محاسباً، كما أن ابن عمه مؤمن الجرو، كاتب أغنيات الفرقة يعمل بالمحاماة. الإرادة القوية لابني العم اجتذبت شابا ثالثاً من العائلة هو سائد الجرو، وأيضا شجعت المهندس الزراعي سراج الشوا الذي يعمل منتجاً للموسيقى الإلكترونية على الانضمام للفريق، بعدما وجد فيه فرصة لإشباع هوايته في العزف على الكيبورد الإلكتروني. ولم يمر وقت طويل حتى التحق بهم السويسري توماس كوتشرهانز، عازف الطبل، الذي كان يعمل ضمن النشاط الإغاثي الإنساني في القطاع. عندما استمع كوتشرهانز إلى الفرقة أول مرة لم يستطع أن يخفي دهشته، التي بلغت حد الصدمة.

اختار المؤسسون اسم "أوسبري في"، وكلمة Osprey تعني طائر العقاب الجارح، الذي يحلق في السماء عالياً، ويرمز به دائماً إلى التفوق والكبرياء، والقدرة على مواجهة الصعاب. ويعبر حرف V، عن رقم خمسة في الرموز اللاتينية، في إشارة إلى عدد أعضاء الفرقة التي انطلقت عام 2019 من خلال نشر مقاطع الفيديو. 

الشر قبل عشرين عاماً، تعرف الصبيان ابنا العم مؤمن وراجي الجرو على موسيقى الروك، فانشغلا بها وهيمنت على تفكيرهما، وقضيا وقتاً طويلاً في استكشافها ومحاولة فهمها، إلى أن سيطر عليهما الأمل في إنشاء فرقة خاصة بهما تقدم الروك والميتال في قطاع غزة. ومبكراً، أدركا أن الطريق صعب جداً، لكن يبدو أن الأمر لم يكن مجرد صعوبة، بل كان أشبه بالمستحيل. وقد قرر آل الجرو مواجهة المستحيل، واقتحام العقبات، وهو ما استلزم إرادة حديدية وجهوداً كبيرة جداً. تمثلت العقبة الأولى في خلو القطاع من أي مُعلم للعزف على آلة الغيتار، فلم يكن أمام مؤمن إلا التعلم عبر الإنترنت، ومتابعة مقاطع العزف المنشورة على "يوتيوب"، وفي الوقت عينه انخرط راجي في نشاط متواصل لفهم كلمات الأغاني التي تقدمها فرق الروك العالمية، وإدراك الرسالة التي تحملها إلى المستمعين المهتمين بهذا النمط الموسيقي في كل مكان. كان مهموماً بتطوير قدرة محلية فلسطينية على إنتاج كلمات باللغة الإنكليزية تتشابه مع الروح التي يقدمها الروك الغربي، لكنها تحمل إلى العالم حقيقة الجرح الفلسطيني الذي لم يندمل، كما تحمل رسالة محبة إنسانية من قطاع غزة إلى كل مكان.

لم تسمح ظروف القطاع المحاصر للفرقة أن تقدم حفلاً واقعياً على خشبة مسرح أو أن تلتقي بالجمهور في مواجهة مباشرة. كان الإنترنت و"العروض الرقمية" وسيلتهم الوحيدة لإيصال صوتهم إلى أهالي غزة، وإلى المنشغلين بالهم الفلسطيني حول العالم. حولوا غرفاً صغيرة في بيوتهم إلى استوديوهات تسجيل وإنتاج، وأنفقوا على التجهيزات على قدر إمكاناتهم المحدودة. تحتاج غرفة التسجيل إلى عزل صوتي، وتثبيت للآلات، وإلى كاميرات للتصوير، وإلى إضاءة مناسبة، وحواسيب، وبرامج للصوت والمونتاج. ليس باستطاعة أحد في غزة أن يحصل على كل هذه الإمكانات إلا إذا ساندته جهات نافذة، محلية أو دولية.

بعد نحو عامين من الانطلاق، أحيت الفرقة أهم محافلها على الإنترنت، في إبريل/نيسان 2012، حيث شاركهم المغني البريطاني المناصر للقضية الفلسطينية روجر ووترز، مؤسس فرقة بينك فلويد، في حفل بعنوان "أعيش من أجل غزة"، بهدف جمع التبرعات لدعم الموسيقيين الفلسطينيين. كما اشترك في الحفل عازف الغيتار والمغني الأميركي توم موريلو، من فرقة "ريج أغينست ذا ماشين"، والمغنّي الفلسطيني محمد عساف.

بعدما اطمأنت الفرقة إلى مستوى التفاعل والإعجاب من شباب قطاع غزة، قررت إصدار أول ألبوم خاص بها، مكوناً من خمس أغنيات، ليتجانس مع اسم الفرقة أو مع عدد أعضائها. جاءت الأغنيات كلها باللغة الإنكليزية، وحملت معاني إنسانية عميقة. وتمثيلاً، يمكن أن نشير إلى أغنية "قطرات الحياة" التي اشترك في كتابتها مؤمن وراجي الجرو، وتتحدث عن التشابه بين الماء وبين الطبيعة البشرية، فالماء مصدر الحياة، ورمز النقاء، لكنه قد يصبح قوة مدمرة بالسيول والفيضانات. وكذلك الإنسان، يحمل النقاء والخير في أصله وفطرته، لكنه يتورط أحياناً في الفوضى والدمار. ورغم كل شيء، فإن المطر قادر على محو كل الأدران، وإزالة كل الآثار السلبية، مع إتاحة فرصة لميلاد جديد، ونشر مشاعر التفاؤل.

من الأمثلة المهمة أغنية Marble أو "رخامي" التي استوحت الفرقة معانيها من كلمات للفيزيائي الأميركي كارل ساغان، وتتناول التعقيدات البشرية، مثل الكراهية والحقد والقتل، وكذلك أغنية Lost and Secure التي تحكي قصة شاب فلسطيني لجأ إلى أوروبا، طلبا لحياة أفضل له ولخطيبته. لكن تأتي الحرب على غزة، لتخطف تلك الخطيبة، فيفقدها من دون أن يكون بإمكانه وداعها.

خلال سنوات، بذل المغني الأساسي في الفرقة راجي الجرو جهداً متواصلا كي يصبح مؤهلاً للغناء والعزف في فريق روك. صحيح أنه لم ينل تدريباً احترافياً بالغناء ضمن فريق غربي ووسط الجماهير المحتشدة للاستماع المباشر، لكنه استطاع أن يكون على مستوى متميز من الجهوزية، التي نالت الإشادة من موسيقيين ومغنين عالميين. أتقن راجي اللغة الإنكليزية، كما أتقن العزف على الغيتار الكلاسيكي، والإلكتروني، وأيضا البيانو. ويرى أن تجربة الفرقة تعكس وجهاً مختلفاً لغزة، وتظهر تميزها الثقافي والحضاري. يتمنى راجي أن تصبح فرقته "ميتاليكا" الفلسطينية على غرار فرقة "ميتاليكا" الأميركية، أو أن تصل إلى مكانة "بينك فلويد".

وينظر أعضاء الفرقة إلى موسيقى الروك، على أنها تتميز بكلماتها العميقة، وتجابه واقعهم المعيشي في غزة، في ظل تعرضهم باستمرار، لظروف سياسية، واجتماعية، ونفسية، لا يمكن تحملها إلا من خلال التعبير الفني. ويشير مؤمن إلى أنه يقضي ساعات مع كتبه، وموسيقاه، باحثاً عن عالم آخر، فيه بعض من المنطقية التي يفتقر إليها المجتمع.

ويعتبر أعضاء الفرقة أن موسيقى الروك تمثل أقوى أشكال التعبير الموسيقي عن المعاناة الفلسطينية عموما، وعن المأساة في قطاع غزة على وجه الخصوص. يرى أعضاء الفرقة أن قدرة الروك على تحمل ونقل المشاعر المتناقضة والعميقة كبيرة جدا، وبدرجة لا تجاريها أي موسيقى مغايرة. بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، توقف نشاط الفرقة. حلّق العقاب الجارح في سماء غزة، ثم لم يترك الدمار له مكانا للهبوط.

المساهمون