في الأيام الأولى التي تلت السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي والعداون على غزة وأهلها، ظهر مقدم البرامج المصري باسم يوسف في مقابلة مع الصحافي البريطاني بيرس مورغان في برنامجه الذي يحمل اسمه، مضافةً إليه كلمة Uncensored، في دلالة على علوّ سقف البرنامج، الذي يبدو أن لا سقف له، كما يحاول مورغان أن يقدمه بأي حال، وهذه مسألة أخرى تتطلب تعمقاً لا طائل منه الآن في سيرة الصحافي البريطاني وأشباهه. حصدت الحلقة عدداً لن نكترث بالعودة إلى الإنترنت الآن لتذكره، إلا أنه كان مليونياً، وهي نقطة مهمة لن يُغفِل يوسف لاحقاً تذكيرنا بها مراراً.
وعلى شاكلة كل الأعمال التي تحظى بشعبية، صدر القرار بالتمديد لـ"موسم" آخر لاحقاً. هذه المرة بتنسيقٍ وتجهيز مسبق، وبوسترات تشويقية تشبه تلك التي تسبق الحدث الأكبر في عالم المصارعة الحرة، قبل أن يُعقَد بالفعل نزال العمالقة، مثيراً طيفاً من ردود الأفعال المختلفة.
يمكن أن نقف عن الخيارات التصميمية المحفزة للتشويق في وقتٍ يتسيّد فيه الخوف والقلق كل المشاعر. كذلك يمكن أن نقف عند جزئية عدّ المشاهدات، في الوقت نفسه الذي تحمل معه الرقمنة والأرقام كل أشكال الأخبار السيئة، إلا أننا لن نفعل ذلك لأنه يعني توغلًا في مضمون النزال، وفي حلبة النقاش، وهي مهمة لن نضطلع بها بشكل كامل. على النقيض، يمكن هنا أن نفكر في نزال الكلمات كوسيطٍ وكوعاء لزجّ الأفكار المتضادة أو المتوافقة اليوم بشكل عام، وبعد العدوان على غزة بشكلٍ خاص، والتساؤل عن جدواه الفعلية، ولا سيما أن كل شيء يبشر بالمزيد منها.
المجالدة الجدلية
للوهلة الأولى، تبدو الفكرة شديدة البداهة. من يكره التداول الحر للأفكار وتطويرها وتقليبها إلى أن تنضج وتزهر؟ بالطبع، هذا ما تقوم عليه المناظرات، أو ما تقول إنها تقوم عليه، من حيث الزجّ بطرفين يحملان موقفين متناقضين من قضيةٍ ما بغرض عرضها أمام جمهورٍ، حيث يمكن لكل الأطراف اختيار أحد المعروضات أو دمج بعضها في تكوينٍ جديد. بعد السابع من أكتوبر، بدا أن العالم وجد الفكرة المثالية والمزاد المرجوّ، حيث لا تلتقي الأضداد ولا صوت يعلو فوق صوت الفكرة. هكذا، انتقل مورغان من التركيز المفرط للمرة المئة بعد الألف على أخبار محلية وشخصيات مثل ميغان ميركل، إلى المعني الأول والأكبر بالشرق الأوسط، مثله مثل من يعملون في الحلبات الأخرى خارج نظام الاستوديو التلفزيوني وعلى منصات البث البديلة وغيرها.
الآن، وكي نتجنب السقوط في هاوية التبسيط، علينا النظر إلى المسألة من زاوية مغايرة. ليس الكل على مسافةٍ لصيقة مما يجري، ولا يتبنون بأي حالٍ مواقف متبلورة وواضحة مما يجري. وربما لنا أن نحظى بحلفاء جدد. سنسمي الطرح هذا اختصاراً "كسب الغرب عبر تعليمه"، فهو في النهاية قائم على هذه الفرضية.
يشبه هذا التفاؤل، حين يُسنَد إلى جدليات اليوم المتلفزة، ذاك الذي يُلحَظ في الأمثال الشعبية وقصص العاثرين. فحين يكون تركيزنا منصباً على الوسيط، يبدو أحياناً أن ما يرد فيه من مضامين يستحق أن يولى أهمية ثانوية، مقارنةً بتكوين الوسيط نفسه وحدوده.
وفي حالة هذا الشكل من حلقات الجدل، ينفع أن نعود إلى البوستر ذاته. عندما نصف الخيار التصميمي بذاك الذي يشبه نزالات "راسلمانيا"؛ فلا شك أن جزءاً من التشابه مرده تلك الرغبة في طرح الخصم أرضاً ومن ثم تثبيته. وعلى شاشة التلفاز، بالكاد يُلحَظ هذا الفارق بين ضربة قاضية للجسد أو العقل على حد سواء داخل الحلبة أو خارجها، مع الجمهور الذي قد يكون "التعلّم" آخر دوافعه.
وربما قال أحدنا إن الأفكار لا تتهاوى كالأجساد، وإن المقارنة قد تكون ظالمة بشكلٍ أو بآخر. وهنا يمكن أن نعود إلى تراثٍ كامل من هذه البرامج وتأمل أيٍ منها خلص إلى نهاية مغايرة عن تلك التي نحذّر منها، سواء كانت داخل منظومة الإعلام العربي أو خارجها. تحفل هذه التجارب على اختلافها بقواسم مشتركة، قد تكون أبرزها إساءة طرح القضايا المعروضة و"الهندسة" القصدية لكل التفاصيل التي تغلّب التشويق على أي إعمال للفكر.
ما الذي يجري حين تتصارع الأفكار على الشاشة إذن؟ ببساطة، يفرض النزال قواعده ويحل الأسلوب محل المضمون أو أي اعتبار آخر. فعندما تكون النهاية المرجوة أو المتوقعة "تدمير" الغريم، وإن كان ذلك بالبرهان والحجج الممنطقة، فإن الطريق نحو هذه الغاية سيعتمد على شكليات تضبط متى يكون الكلام ومتى يحل الصمت ومتى ترمى الكلمات الصاعقة، ويغيّب الأداء أي معلومة أو حجة مهما كانت مهمة.
ولا شيء يبرهن صحة هذا الكلام مثل الحياة الثانية التي تُنفَخ في النزال بعد بثه بفترة، حين يُجزّأ إلى مقاطع صغيرة سريعة، ويمكننا عند هذه اللحظة توقّع أنها تحتوي على "قصف جبهة" واحدٍ على الأقل، يعمل على المستوى الرمزي كمدمرٍ للخصم وما يقف الخصم وراءه، وتنتشر بعدها كالنار في الهشيم محاوِلةً إثبات شيءٍ أو نقطةٍ ما، لا تبدو الآن مهمة. وللحقيقة، تصبح هذه المشاهدة مضحكة حين نعود إلى الغاية التي وُجِد النقاش لأجلها، وهي عرض الآراء أو تفحصها مقابل بعضها بعضاً، وكسر حالة حجرات الصدى، كما يقول التبرير على الأقل.
قد يكون هذا الشكل من حصد المشاهدات مقبولاً حين يتعلق بقضايا أقلّ أهمية لا تترك وراءها هذه الحصيلة من الضحايا والدمار، ولا يربطها بالاستقرار في منطقة بأكملها أي رابط. إلا أنها في هذه الحالة تبدو "استثماراً" معدوم الأخلاقية يُشرف عليه جهاز إعلام متآكل ومستعد، جذباً لأي نقرة أو مشاهدة، لأن يدرج بنظام المجالدين خاصته أي قضية، بعد أن عمل في برامجه الأكثر "جدية" على خصّها بتغطية معيبة أنكرت حتى اليوم على الفلسطينيين إنسانيتهم.
سياق غزة والمنطقة
يمكن فهم الإحباط والحنق، ذاك الذي يجثم في الصدور ثم ينفجر مثيراً شيئاً من الراحة كلّما "دُمِّرت" شخصية ما على الهواء مباشرة، خصوصاً حين تكون المنافذ الأخرى مسدودة أو منحازة ضد التقديم أو التمثيل العادلين. إلا أن المسألة أيضاً تصحّ أن تمتد لما هو أبعد من مجرد تفريغ الغضب، بل يمكن القول إنها تستحق من أي متعاطفٍ أو متبنٍّ لها قليلاً من التوازن والتفكير في ما يتجاوز إحساساً عابراً بنصرٍ على الشاشة.
ففي النهاية، وأمام جمهورٍ يعرف مسبقاً ما يريده سواء في موضوع العدوان على غزة أو غيره، لا يمكن تصوّر هذا النوع من الفرجة وهو يحشد رأياً عاماً ويوجهه أو يغير وجهات نظرٍ راسخة، على الأقل حين يُقارَن بالمشاهد التي ترد يومياً من قطاع غزة، ويُقدِم من يوثقها على مخاطرات لن يستطيع مقدمٌ في استوديو بعيد إدراكها، ولن تستطيع المداخلات النارية -مهما كان من يطلقها ومهما علا شأنه- أن تضغط تاريخاً بأكمله أو تقدم سياقاً يتعرّض يومياً للكتابة وإعادة الكتابة في الآن ذاته.
يحتاج فهمنا، ليس للشأن الفلسطيني وسياق الحرب على غزة وحسب، بل للمنطقة بأكملها وتحولاتها، إلى محرّك يعيد باستمرار فهم كل المتغيرات بعلاقة مع العالم الأوسع، وهي عملية لا يمكن تصوّرها تجري دفعة واحدة أو بمسار واحد، بل بتراكمية تشمل المحاولة والجدل بالطبع. هذه العملية ستتطلب قدراً من الرصانة بالإجراءات والتعاريف، تلك التي تميّز الطرف الجدير بالجدل عن سواه بالمقام الأول، وتفرّق بين المناصرة والسياسة اليوم وبين "التوعية" لمجرد التوعية أو نشر المعرفة "في الغرب" والبناء والتنظيم اللذين تثبت كثير من المشاهد الحالية في منطقتنا غيابهما والحاجة الملحّة إليهما على حد سواء.