"عزلة": تصوير يُفكِّك عالماً وصداقةٌ تُحرّر أفراداً

20 أكتوبر 2023
نينّا بلْمادوتِّر (الثانية من اليسار) مع مشاركين في "عزلة" (سونيا رِتْشيا/Getty)
+ الخط -

 

رجلٌ يغادر مزرعته الريفية، بعد بيعها، ويُقيم في مدينةٍ، بعد عثوره على منزلٍ يتوافق مع ما يريده من سكينةٍ وعزلة يعتادهما في حياته الريفية، في تلك البلدة الغارقة في الرماديّ من شدّة الصقيع، الذي يكاد يخرج من الشاشة، لجمال تصويره (دوشان هوسار)، ولسطوته البهيّة على الكاميرا، وحركتها الهادئة في التقاط غليانٍ يعتمل في أكثر من فردٍ.

الرجل غير وحيدٍ كلّياً، في "عزلة" (2023، إنتاج مشترك بين إيسلندا وسلوفاكيا وفرنسا) لنينّا بلْمادوتِّر، مع أنّه، في منزله الجديد، يريد عزلةً ووحدة، سيُحطّمهما صبيٌّ يبلغ من العمر 10 أعوام، يبيع الصحف في وقت فراغه، ويعاني ارتباكاً مؤذياً بسبب علاقة متوترة بين والديه. كأنّ الصبيّ، بسبب تلك المعاناة، ينعزل في عيشٍ يومي، مع أنّه يرتاد المدرسة، ويتمشّى في أحياءٍ وأزقّة، من دون أنْ يكون له قريبٌ أو رفيق. لهذا، يجهد الصبيّ في اختراق عالم الرجل، ويتوفّق في تحقيق مُراده، ويدخل منزله وعالمه، ويُصبحان صديقين، رغم اختلاف العمر.

يغلب الصمت على الحياة اليومية لغونّار (فْروسْتر ليّو غُنَّرْسُن)، الروتينية بامتياز. صمته مترافق وملامح تشي بحزنٍ، بل بلامبالاة، يبدو أنّها ناتجة عن خيبات وقهر. يبيع مزرعته "بيارغ"، والأحصنة التي يرعاها، متخلّياً (لسببٍ غير مهمّ معرفته) عن كلّ شيءٍ، ومنتقلاً إلى تلك المدينة الهادئة، حاملاً معه أغراضاً قليلة، ومالاً كثيراً. الروتين سمة حياته اليومية في المدينة أيضاً. الطقس باردٌ، والشتاء شبه دائم، والعزلة نمط عيشٍ يعتاده منذ زمن. اقتراب آري (هِرمان سامْولْسُن) منه يفتح ثقباً صغيراً في الجدار المحصّن فيه. غونّار غير متزوّج، ويتيم الأبوين (تتوفّى والدته عند إنجابه). له قريبٌ في ولاية أميركية، يتواصل معه، بين حينٍ وآخر، عبر رسائل مكتوبة بخطّ اليد، فهو غير مُكترث بالتكنولوجيا، ولا جهاز تلفزيون في منزله، الذي سيقتنيه لاحقاً تلبية لرغبة آري. يستمع فقط إلى ما تبثّه الإذاعة عبر جهاز راديو قديم.

تكثيف الحكاية في 76 دقيقة يُفكّك سيرة غونّار، والعالم الصغير المحيط به. يريد عزلة، لكنّه غير منفضّ عن تواصل، ولو خفرٍ، مع الناس. يُدرك أنّ مشكلةً مطروحة في بلده (إيسلندا)، تتمثّل بالمهاجرين الأفغان تحديداً، وبكيفية التعامل مع المسألة، التي تتردّد في مفاصل عدّة، إمّا عبر نشرات الأخبار الإذاعية، وإمّا في تجمّعات لأفرادٍ، قبل أنْ يتبرّع بمبلغ كبير من المال لمركز اللاجئين.

الأساسي في "عزلة" مرتكز على المفردة بحدّ ذاتها (عنوان الفيلم). فغونّار "أصيل" في عزلته (أم أنّ ما يريده لنفسه وحدةً، لعلّها مفروضة عليه في حياةٍ يرتضيها رغم مآسيها؟)، مع أنّه غير منفصل كلّياً عن محيطٍ وأفرادٍ. سماحه لآري بـ"اختراق" عالمه وحياته، وإنْ بتردّد، دليلٌ على رغبةٍ (أتكون جامحة؟) في عائلةٍ، غير متمكّن من إنشائها. اهتمامه بآري دليلٌ آخر على ذلك، إذْ يتدرّب معه على قبول ما لم ولن يُفكّر به إطلاقاً، كنوعٍ موسيقيّ (يستمع دائماً إلى كلاسيكيات، وآري يريد الـ"روك" وأشباهه). الهاتف المحمول مع آري، مثلٌ آخر.

 

موقف
التحديثات الحية

 

في لحظةٍ، يتبدّل كلّ شيءٍ. ظاهرياً، يُظَنّ أنّ إثماً يرتكبه غونّار، يفرض عليه انكفاءً في علاقته بآري، المحتاج إلى صديقٍ يعثر عليه في العجوز. المبطّن في تلك اللحظة غير مُنكشفٍ بسهولة، بل ربما لن ينكشف أبداً، مع أنّ في النهاية ما يُشير إلى استعادة العلاقة صفاءها. لكنْ، ما شكل المُقبل من الأيام بين الصديقين أولاً، وبين غونّار ووالديّ آري ثانياً، أورّي (يوهان يونسّون)، وأومْيُور (آنا غونّديس غُودمَنْدِسْدوتّير)، والجميع يُقيمون في شارع واحد؟

تصوير العزلة مؤثّر لمصداقيّته في مزج الرماديّ، في طقس شتوي قارس، بمناخ الوحدة الخانقة في الحياة اليومية لغونّار. البساطة في التصوير إضافة نوعيّة على تلك المصداقية، إذْ لا اختبارات تحجب الأساسي في سرد حكاية العجوز، ولا فذلكات، جمالية وفنية وتقنية، بقدر احترافه المهني. فالأهمّ التقاط جوهر المطلوب، وإبرازه بتجرّد بصري يوصل المُراد إيصاله بشفافية وعمق في آنٍ واحد. الكلام القليل يُساهم في بلورة التكثيف السردي، الذي يطغى عليه صمتٌ، يتقنه غونّار فيبثّه في ثنايا الحبكة وتفاصيلها المروية بالصُور غالباً.

قلّة الكلام تعني، بالأحرى، اقتصاداً في قولٍ وتعبير، وهذا مناسبٌ لحكاية، يبرع الممثل الإيسلندي فْروسْتر ليّو غُنَّرْسُن تحديداً في إبراز متنها والهوامش، بأداءٍ منبثقٍ من جمال البوح الصامت، الذي تُرافقه حركات الجسد والعينين، وكيفية السير على القدمين وتواصله الحسي (عناقٌ وقبلة على الجبين) وغير الحسي مع آري، ووضع مسافةٍ مع الآخرين.

التصوير نفسه، رغم بساطته وشفافيته الجميلتين، يتفنّن في التقاط بعض التفاصيل الصغيرة، كاهتمامه بصورة فوتوغرافية، أو بتكرار لقطة واحدة (شراء غونّار حاجات منزلية، جمْعه زجاجات فارغة وبيعها في مركز لإعادة التدوير، وقوفه أمام نافذة المطبخ، تجوّله القليل في أزقّة وشوارع، بيع آري الصحف، إلخ)، تأكيداً على ذاك الروتين الذي يعكس فراغ اليوميّ في حياة غونّار، وفي قسوة معاناة آري في منزله العائلي، والقسوة تلك (خلافات دائمة بين والديه، مع صراخ أحدهما في وجه الآخر غالباً) تصنع له فراغاً حادّاً، خاصة أنّ صديقه الوحيد يُقيم منذ فترة في بلدة بعيدة.

بهذا، يختصر "عزلة" فراغاً واختناقاً، ولعلّ الصداقة بين عجوز وطفل محاولة لملء الفراغ وكسر الاختناق، باشتغال سينمائي مبسّط وعميق في آن واحد.

المساهمون