في عام 1920، كان العالم لم يتعافَ بعد من آثار الحرب العالمية الأولى، السينما كانت لا تزال في مرحلة البدايات، تبحث عن استعارات من الأدب والموسيقى والفن التشكيلي، ويبحث عدد من المخرجين عن "هوية" مميزة للفن الحديث.
اختلف الأمر بين بلد وآخر: في أميركا كان هناك عبقريان أحدهما يدعى "تشارلي شابلن" والآخر "باستر كيتون"، يكتبان ويمثلان ويخرجان أفلاماً عن قصص إنسانية بطريقة كوميدية شديدة الثورية. في روسيا كانت الثورة بذاتها قد نجحت وبدأت في التعامل مع السينما كأداة مهمة للـ"بروباغندا".. وكانت نظريات ومبادئ مخرجين مثل سيرغي آيزنشتاين وفزيفولد بودوفكين في طور التكوين، أما في ألمانيا – المطحونة بعد الحرب ــ كانت الموجة الأكثر تأثيراً – ربما ــ في تاريخ السينما كله: التعبيرية الألمانية.
3 أفلام رعب كلاسيكية تمثل الأثر الأهم لتلك الموجة، لماذا أفلام الرعب؟ لأن المزاج العام لـ "التعبيرية"، التي ظهرت كمذهب في الفن التشكيلي يقوم بالـ "تعبير" عن دواخل الفنان وهواجسه. هذا المزاج، السوداوي نسبياً، كان ملائماً لأفلام رعب تتحدث تحديداً عن جانب مظلم من الإنسان وتدميره لنفسه، في وقت خرج فيه العالم، وألمانيا تحديداً، من حرب مدمرة.
أول تلك الأفلام هو فيلم The Cabinet of Dr. Caligari، إنتاج عام 1920، من إخراج "روبرت فينه"، والذي يحكي عن "دكتور كاليغاري"، الذي يستطيع أن ينوم شاباً يدعى "سيزار" مغناطيسياً، ويدفعه لارتكاب فوضى وجرائم قتل في بلدة ألمانية صغيرة.
الفيلم بكامله هو مجموعة متتابعة من لوحات الفن التشكيلي، "فينه"، لسبب إنتاجي، صوّر فيلمه بالكامل داخل الاستوديو، وبدلاً من بناء الديكورات قرر استخدام ورق الحائط والرسم على الجدران والأرضيات، ولأن فيلمه يدور ــ لأول مرة في تاريخ السينما ــ بتقنية "التذكر"/"الفلاش باك"، فإن الشكل البصري الذي خرج عليه الفيلم كان ملائماً جداً لحكاية لا نعرف إن كانت حقيقة أم وهما.
الفيلم له تأثيرات عدة في كل جوانب صناعة السينما، في السرد (استخدام الفلاش باك.. و"التويست الختامي" للحكاية)، في التيمة (الطريقة التي تتوحد بها كل التفاصيل في التعبير عن فكرة الهوس)، والأهم كان الشكل (استخدام النور والظلال.. اللون المُضاف للصورة.. الديكور.. المكياج.. اللقطات القريبة والبعيدة من شخصيات الفيلم).
وربما لم يملك أي فيلم آخر في حقبة العشرينيات نفس الأثر الذي حققه "دكتور كاليغاري" و"كبينته" في تاريخ السينما.
نجاح "كاليغاري" الكبير في ذلك الوقت، وتأسيسه لما عُرف بعد ذلك بـ "التعبيرية الألمانية"، كان له أثر ضخم في مخرج ألماني آخر سيُعَد بعد ذلك من أهم المخرجين في تاريخ السينما الصامتة، وهو "ف. دبليو مورناو".
أخرج "مورناو" عدة أفلام في بداياته، ولكن نقطة انطلاقه الحقيقية، والأثر الأول الباقي له، هو فيلم "Nosferatu: A Symphony of Horror" عام 1922، في اقتباس غير معلن – نظراً لمشاكل حقوق الملكية ــ لرواية برام ستوكر "دراكولا".
الفيلم صنع بنفس المزاج السوداوي، (وحش).. (جرائم ليلية).. (فوضى مدينة). سينمائياً ورغم أن "مورناو" أقل تأثراً بالفن التشكيلي من "فينه" إلا أنه ظل منتمياً له في جوانب عدة مثل التلاعب بالنور والظل، والاعتماد على تشوه المنظر لمواءمة الحكاية، كما نشاهد في القصر المخيف لمصاص الدماء، أو طريقة تصويره على مدار الفيلم. نجح "نوسفراتو" أيضاً، لتنتج السينما الألمانية عشرات الأفلام على نفس المنوال، ولكن الأثر الثالث المهم هو فيلم "مورناو" أيضاً بعدها بـ4 سنوات: Faust عام 1926.
القصة مقتبسة عن مسرحية "يوهان جوته" الأشهر في تاريخ الأدب الألماني "فاوست"، أو الرجل الذي باع روحه للشيطان، وعلى العكس من الثقل الفلسفي والتاريخي والوجودي الذي يمنح المسرحية خلودها، فإن "مورناو" – وفي مرحلة ما زالت مبكرة من تاريخ السينما ــ كان منجزه في الفيلم "بصريا" بالأساس.
الساعة الأولى من الفيلم تحفة حقيقية في سينما الرعب، قادرة على بث الرهبة حتى بعد عقود طويلة من إنتاجها، المشاهد الأولى بين "الشيطان" و"الملائكة"، المدينة المُبتلية بالمرض والهَمّ، الطبيب "فاوست" الذي يشعر بعجزه، اللقاء الأول بينه وبين الشيطان، بداية المقايضة والعقد الذي يُكْتَب بالدم، صورة "فاوست" الشابة في المرآة التي تمثل الإغراء الأقصى بالنسبة لرجلٍ عجوز. كل هذا صُنِع في مشاهد قوية ومؤثرة حتى مع بدائية مؤثراتها البصرية.
الأفلام الثلاثة ازداد تأثيرها بالزمن. انتماؤها لسينما الرعب سمح لمخرجيها أن يبدعوا ويجربوا أشياءً غير معتادة بصرياً في السينما، ولاحقاً صنع ذلك أثراً مهولاً، ليس فقط في "صنف الرعب" – الذي استوردته أميركا سريعاً في أفلام عدة ــ ولكن القيمة الأكبر للتحف الثلاث (كاليجاري، نوسفراتو، وفاوست) كان في تأثر مخرجين عظام بهم لاحقاً، من بيلي وايلدر وأورسون ويلز، وجون هيوستن، وكارول ريد، وكل من خلقوا صنف "الفيلم نْوار" في أميركا، واستلهموا عناصر كثيرة بصرياً من أفلام الرعب في التعبيرية الألمانية، ووصولاً إلى مخرج حديث مثل تيم بيرتون الذي صنع عدداً من أهم أفلامه بتأثر وتحية لـ "فينه" و"مورناو"، وأفلامهم العظيمة التي أطلقت شيئاً في تاريخ السينما لا يزال حياً حتى اليوم.
اختلف الأمر بين بلد وآخر: في أميركا كان هناك عبقريان أحدهما يدعى "تشارلي شابلن" والآخر "باستر كيتون"، يكتبان ويمثلان ويخرجان أفلاماً عن قصص إنسانية بطريقة كوميدية شديدة الثورية. في روسيا كانت الثورة بذاتها قد نجحت وبدأت في التعامل مع السينما كأداة مهمة للـ"بروباغندا".. وكانت نظريات ومبادئ مخرجين مثل سيرغي آيزنشتاين وفزيفولد بودوفكين في طور التكوين، أما في ألمانيا – المطحونة بعد الحرب ــ كانت الموجة الأكثر تأثيراً – ربما ــ في تاريخ السينما كله: التعبيرية الألمانية.
3 أفلام رعب كلاسيكية تمثل الأثر الأهم لتلك الموجة، لماذا أفلام الرعب؟ لأن المزاج العام لـ "التعبيرية"، التي ظهرت كمذهب في الفن التشكيلي يقوم بالـ "تعبير" عن دواخل الفنان وهواجسه. هذا المزاج، السوداوي نسبياً، كان ملائماً لأفلام رعب تتحدث تحديداً عن جانب مظلم من الإنسان وتدميره لنفسه، في وقت خرج فيه العالم، وألمانيا تحديداً، من حرب مدمرة.
أول تلك الأفلام هو فيلم The Cabinet of Dr. Caligari، إنتاج عام 1920، من إخراج "روبرت فينه"، والذي يحكي عن "دكتور كاليغاري"، الذي يستطيع أن ينوم شاباً يدعى "سيزار" مغناطيسياً، ويدفعه لارتكاب فوضى وجرائم قتل في بلدة ألمانية صغيرة.
الفيلم بكامله هو مجموعة متتابعة من لوحات الفن التشكيلي، "فينه"، لسبب إنتاجي، صوّر فيلمه بالكامل داخل الاستوديو، وبدلاً من بناء الديكورات قرر استخدام ورق الحائط والرسم على الجدران والأرضيات، ولأن فيلمه يدور ــ لأول مرة في تاريخ السينما ــ بتقنية "التذكر"/"الفلاش باك"، فإن الشكل البصري الذي خرج عليه الفيلم كان ملائماً جداً لحكاية لا نعرف إن كانت حقيقة أم وهما.
الفيلم له تأثيرات عدة في كل جوانب صناعة السينما، في السرد (استخدام الفلاش باك.. و"التويست الختامي" للحكاية)، في التيمة (الطريقة التي تتوحد بها كل التفاصيل في التعبير عن فكرة الهوس)، والأهم كان الشكل (استخدام النور والظلال.. اللون المُضاف للصورة.. الديكور.. المكياج.. اللقطات القريبة والبعيدة من شخصيات الفيلم).
وربما لم يملك أي فيلم آخر في حقبة العشرينيات نفس الأثر الذي حققه "دكتور كاليغاري" و"كبينته" في تاريخ السينما.
نجاح "كاليغاري" الكبير في ذلك الوقت، وتأسيسه لما عُرف بعد ذلك بـ "التعبيرية الألمانية"، كان له أثر ضخم في مخرج ألماني آخر سيُعَد بعد ذلك من أهم المخرجين في تاريخ السينما الصامتة، وهو "ف. دبليو مورناو".
أخرج "مورناو" عدة أفلام في بداياته، ولكن نقطة انطلاقه الحقيقية، والأثر الأول الباقي له، هو فيلم "Nosferatu: A Symphony of Horror" عام 1922، في اقتباس غير معلن – نظراً لمشاكل حقوق الملكية ــ لرواية برام ستوكر "دراكولا".
الفيلم صنع بنفس المزاج السوداوي، (وحش).. (جرائم ليلية).. (فوضى مدينة). سينمائياً ورغم أن "مورناو" أقل تأثراً بالفن التشكيلي من "فينه" إلا أنه ظل منتمياً له في جوانب عدة مثل التلاعب بالنور والظل، والاعتماد على تشوه المنظر لمواءمة الحكاية، كما نشاهد في القصر المخيف لمصاص الدماء، أو طريقة تصويره على مدار الفيلم. نجح "نوسفراتو" أيضاً، لتنتج السينما الألمانية عشرات الأفلام على نفس المنوال، ولكن الأثر الثالث المهم هو فيلم "مورناو" أيضاً بعدها بـ4 سنوات: Faust عام 1926.
القصة مقتبسة عن مسرحية "يوهان جوته" الأشهر في تاريخ الأدب الألماني "فاوست"، أو الرجل الذي باع روحه للشيطان، وعلى العكس من الثقل الفلسفي والتاريخي والوجودي الذي يمنح المسرحية خلودها، فإن "مورناو" – وفي مرحلة ما زالت مبكرة من تاريخ السينما ــ كان منجزه في الفيلم "بصريا" بالأساس.
الساعة الأولى من الفيلم تحفة حقيقية في سينما الرعب، قادرة على بث الرهبة حتى بعد عقود طويلة من إنتاجها، المشاهد الأولى بين "الشيطان" و"الملائكة"، المدينة المُبتلية بالمرض والهَمّ، الطبيب "فاوست" الذي يشعر بعجزه، اللقاء الأول بينه وبين الشيطان، بداية المقايضة والعقد الذي يُكْتَب بالدم، صورة "فاوست" الشابة في المرآة التي تمثل الإغراء الأقصى بالنسبة لرجلٍ عجوز. كل هذا صُنِع في مشاهد قوية ومؤثرة حتى مع بدائية مؤثراتها البصرية.
الأفلام الثلاثة ازداد تأثيرها بالزمن. انتماؤها لسينما الرعب سمح لمخرجيها أن يبدعوا ويجربوا أشياءً غير معتادة بصرياً في السينما، ولاحقاً صنع ذلك أثراً مهولاً، ليس فقط في "صنف الرعب" – الذي استوردته أميركا سريعاً في أفلام عدة ــ ولكن القيمة الأكبر للتحف الثلاث (كاليجاري، نوسفراتو، وفاوست) كان في تأثر مخرجين عظام بهم لاحقاً، من بيلي وايلدر وأورسون ويلز، وجون هيوستن، وكارول ريد، وكل من خلقوا صنف "الفيلم نْوار" في أميركا، واستلهموا عناصر كثيرة بصرياً من أفلام الرعب في التعبيرية الألمانية، ووصولاً إلى مخرج حديث مثل تيم بيرتون الذي صنع عدداً من أهم أفلامه بتأثر وتحية لـ "فينه" و"مورناو"، وأفلامهم العظيمة التي أطلقت شيئاً في تاريخ السينما لا يزال حياً حتى اليوم.