سرقة التراث الفلسطيني: قتل المُستعمَر وانتحال شخصيته

avatar woman.jpg
ميار مهنا
كاتبة سورية
18 نوفمبر 2023
الإسرائيليون يواصلون سرقة التراث الفلسطيني
+ الخط -

لم يبتعد وزير التراث الإسرائيلي، عميحاي إلياهو، عن الواقع كثيراً، حين صرح أن ضرب غزة بالنووي هو أحد الخيارات الإسرائيلية المتاحة. على العكس من ذلك، يبدو تصريحه، بكل ما يحمله من وحشية، إعلاناً صريحاً للتعطش الإسرائيلي للقتل، وتوصيفاً للجرائم التي تحدث في غزة بعد عملية طوفان الأقصى. لا سيما بعد أن نشر المرصد الأورومتوسطي تقريراً، يشير فيه إلى أن إسرائيل ألقت على قطاع غزة نحو 25 ألف طن من المتفجرات. بذلك، يتخطى هذا الرقم قوة القنابل الذرية التي ألقتها الولايات المتحدة على هيروشيما وناغازاكي في الحرب العالمية الثانية.
وعلى الرغم من أن تصريحه يمثّل اعترافاً رسمياً بأن سلاح إسرائيل موجه ضد المدنيين في غزة، وهو ما يمكن اعتباره إدانة صريحة لإسرائيل أمام الرأي العام العالمي، فإنه قوبل برد فعل متراخ من نتنياهو، الذي كذّب بدوره ادعاءات إلياهو حول امتلاك إسرائيل سلاحاً نووياً، كما أعلن أنه وبّخه، مضيفاً أنه يعتقد أن الأخير لن يعيد الكرّة بمثل هذه التصريحات، وكأن ما صدر عنه زلّة لسان ليس إلّا. 
إلياهو الذي اعتبر أن ما من أبرياء في غزة، ينتمي لحزب "القوة اليهودية" اليميني المتطرف، بزعامة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، الذي دعا بدوره لإبادة الغزيين، وأعلن أنه يؤيد القضاء على جميع المتعاطفين مع حركة حماس، بمن فيهم من يغنون ومن يوزعون الحلوى. عميحاي ابن عائلة يمينية أبّاً عن جدّ؛ فوالده هو الحاخام شموئيل إلياهو، الحاخام الأكبر لمدينة صفد الذي تشرّب منه الكثير من الأفكار الدينية المتطرفة، وهو حفيد موردخاي إلياهو، الحاخام الأكبر لليهود السفارديم في إسرائيل.
عاد إلياهو متراجعاً عن أقواله، مشيراً إلى أن "القنبلة النووية" التي تحدّث عنها، ما هي إلا تعبير مجازي. ليس من الغريب أن ينتمي "وزير التراث" في إسرائيل إلى اليمين المتطرف، وأن يعلن صراحةً تأييده للتطهير العرقي، إذ لم يتردد بالقول إنه  يرى أن "قطاع غزة ليس من المفترض أن يبقى على وجه الأرض"، في مقترحٍ منه للقضاء على المقاومة، وذلك انطلاقاً من منصبه الذي يشرعن استلاب التراث الفلسطيني، ونسبه إلى اليهود على أنه "تراث توراتي". وهكذا استمر في سياسة استيلاء بدأت مع وصول هربرت سموئيل، أول مندوب سامٍ على فلسطين، الذي شطب بعد وصوله إلى القدس أسماء 20 قرية فلسطينية، واستبدلها بأخرى يهودية، ومن ثم جاء ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي، وأكمل سلسلة تبديل أسماء القرى الفلسطينية، في محاولة لطمس معالم الهوية الأصلية.
يرى فرانز فانون في كتابه "معذبو الأرض"، أن "الشعور القومي ليس تعصباً قومياً، بل هو الأمر الوحيد الذي يهب للشعوب بعداً عالمياً". الأمر الذي اقتنصته إسرائيل مبكراً، وسعت إلى العمل عليه، على اعتبار أن الثقافة والتراث من مكونات الأمة. ولأن الدين اليهودي الذي يجمع الشعوب الآتية من أصقاع الأرض في فلسطين، لا يعدو أن يشكل هوية أمة، ذهبوا إلى استلاب حضارة الفلسطينيين ونسبها إلى أنفسهم، بدءاً من أسماء القرى، وليس انتهاءً بالعملة والزي واللهجة والموسيقى والمطبخ، وحتى الأحجار الكنعانية القديمة، لم تسلم من أن تطاولها يد الاحتلال.
لطالما عنيت الدراسات المابعد كولونيالية بثنائية المستعمِر والمستعمَر، ولا سيما ضمن الحيز الثقافي، فركزت على سمات شخصية الطرفين؛ إذ يرصد كثير من الكتابات في هذا الخصوص، أن أحد الملامح العامة لشخصية المستعمِر تتمثّل في ازدراء الشعوب المستعمَرة، وشعوره بالتفوق عليها، فيرى أنها رجعية، ويقع على عاتقه كمندوب من عالم متحضّر تهذيبها والأخذ بيدها نحو المدنية. هكذا صور المستشرقون الأوائل الشرق، وهذا ما عمل الانتداب على ترسيخه، فكان يفرض نفسه كولي أمر أو وصي على المستعمَر، وذلك انطلاقاً من كونه آتياً من جغرافية ذات سياقات سياسية وتاريخية واضحة، تخولها التعامل مع المستعمَر بكونه آخر. ولكن هذا لا ينطبق على الممارسات الإسرائيلية في خصوص سرقة التراث. ففي إسرائيل، يتقمص المستعمِر شخصية المستعمَر، يحاول إبادته كعرق ووراثة قصته، بما فيها من تراث وتاريخ، فتأخذ إسرائيل موضع المهزوم الذي يقلد الغالب، وذلك انطلاقاً من شعورها بهزيمتها الحضارية، بالإضافة إلى كونها لا تملك رواية تاريخية تجعلها متجذرة في هذه الجغرافية، سوى بضعة وعود من التوراة، لا يمل الإسرائيليون ترديدها.
بالتزامن مع ما تشهده غزة من حرب ومجازر، مستمرة حتى الآن وسجل على إثرها أكثر من 11 ألف شهيد، عاد الإسرائيليون، لسرقة معالم فلسطينية تتصل بالمقاومة، إذ صور الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، بسماجته المعهودة، فيديو يلقي فيه كلمات أغنية "دمي فلسطيني" مستبدلاً كلمة فلسطيني بإسرائيلي. فيما نشر بعض الإسرائيليين صوراً للخبز الفلسطيني على مواقع التواصل الاجتماعي، مرفقة بتعليق "خبز أجدادنا"، مدعين أن الخبز والحمص ورد ذكرهما في التوراة.
بالمقابل، يواجه الفلسطينيون هذا السطو بتشبثهم بعناصر هذه الهوية. وهذه الفكرة أشار إليها المفكر التونسي اليهودي المناهض للاستعمار، ألبير ممي؛ إذ قال: "عندما يتمسك المرء بشدةٍ بهويته، فإنه لا يفعل ذلك إلا لأنها أصبحت مُهدّدة"، والتطهير العرقي الذي يحدث في غزة، من أبرز أهدافه هو مسح الهوية الفلسطينية، والترويج لدعايتهم أن فلسطين "أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض".

لا يتعارض الحديث عن الاتجاهات الثقافية والتراث مع المجازر التي تشهدها غزة، وتقابلها مقاومة فلسطينية. يشير فرانز فانون إلى هذا الأمر: "معارك الكفاح نفسها تُنمّي، في أثناء انطلاقها، مختلف الاتجاهات الثقافية، وتخلق اتجاهات ثقافية جديدة، فالكفاح لا ينيّم الثقافة أثناء اندفاعه". ولذلك، يعود إلى الواجهة الحديث عن التراث الفلسطيني ومكوناته وعمليات السرقات التي شهدها.
بعيد اتفاقية "أوسلو" (1993)، استولى الاحتلال على أكثر من 85% من المواقع الأثرية في الضفة والقدس المحتلة، وسُجلت عشرات المناطق في "يونيسكو" على أنها تابعة للكيان الإسرائيلي، مقابل ثلاث مناطق فلسطينية، في محاولة لخلق إرث تاريخي إسرائيلي كدليل على حقهم في الأرض، في مقابل تهميش آثار الكنعانيين.
في عام 2015، شهدت مدينة تل الربيع (تل أبيب)، عرض أزياء لمصمم الأزياء الإسرائيلي يارون مينكوفسكي، خلال ما أطلق عليه تسمية "أسبوع تل أبيب للموضة"، إذ ظهرت العارضات يرتدين فساتين مصنوعة من الكوفية الفلسطينية بلونيها الأسود والأبيض، والأحمر والأبيض.
زوجة السياسي والعسكري الإسرائيلي، موشي ديان، التي ارتدت في إحدى المناسبات العالمية ثوباً عربياً على أنه تراث إسرائيلي، وكما تفعل مضيفات شركة العال الإسرائيلية للطيران اللاتي يرتدين الزي التقليدي الفلسطيني. كما حاول الاحتلال إنتاج كوفية جديدة سرق ملامحها من الكوفية الفلسطينية ولكن بألوانٍ مختلفة، وتم تصدير هذه السرقات إلى الغرب الذي تواطأ مع الاحتلال على تصديقها، من دون التمحيص في حقيقة ملكيتها، والهدف في ذلك تجيير التاريخ لصالحهم وإثبات حقهم في أرض فلسطين، وتثبيت فكرة أن لليهود جذوراً تاريخية في المنطقة، وإقناع العالم أنهم نتيجة الشتات انخرطوا في حضارات الشعوب المقيمة.

ذات صلة

الصورة
مجزرة عين يعقوب في عكار شمالي لبنان 12/11/2024 (عمر إبراهيم/رويترز)

سياسة

تهيمن الصدمة والغضب على السكان، في بلدة عين يعقوب الواقعة في أقصى شمال لبنان، فيما يواصل مسعفون البحث بأيديهم بين أنقاض مبنى كانت تقطنه عائلات نازحة.
الصورة
رام الله، ديسمبر 2017 (getty)

منوعات

يكرّر الإعلام الغربي نزع الأحداث المرتبطة بفلسطين من سياقها، ليقدّمها وفق السردية التي تناسب الاحتلال، حتى وإن كان ذلك منافياً للواقع
الصورة
فلسطينيون يحملون طفلاً أصيب بقصف إسرائيلي في مخيم جباليا 7 نوفمبر 2024 (فرانس برس)

سياسة

في مجزرة جديدة للاحتلال الإسرائيلي، استشهد أكثر من 36 مواطناً فلسطينياً بينهم 15 طفلاً، وأصيب العشرات بقصف إسرائيلي لمنزل في جباليا البلد شمالي قطاع غزة
الصورة
دونالد ترامب ومحمود عباس بالبيت الأبيض في واشنطن 3 مايو 2017 (Getty)

سياسة

أكد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في اتصال هاتفي مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيعمل على إنهاء الحرب وأبدى استعداده للعمل من أجل السلام
المساهمون