سامي كلارك... غناءٌ من على النافذة

27 فبراير 2022
صوّرت بعض أغانيه القروح اليومية التي سببتها الحرب اللبنانية (فيسبوك)
+ الخط -

شمس المغيب التي صبغت سطح الماء بالذهب، ولفّت الراقصين بالظل، وهم يؤدون لوحة الدبكة الشائعة ضمن مقاطع الفيديو الموسيقية لتلك الفترة، لم تلتقطها عدسة كاميرا مركونة على شاطئ جونية في كسروان بلبنان، أو الرملة البيضاء في عاصمته بيروت.

ولا ذاك الصرح السياحي العملاق والفاخر، الذي تظهر مشهد الراقصات المُتحلّقات حول المغنّي الوسيم الذي ارتدى سترة سوداء عصرية، متحلياً بطلّة برونزية متوسطيّة؛ إذ لولا هزّة خصره الرشيق، وتمايل ذراعيه بحياء الشرقي حول جسد الراقصة المغلّف بثوب أزرق محتشمٍ ومزركش بالحمرة، لظنّه المشاهدون أحد النجوم الإيطاليين أو الفرنسيين في إحدى الأغنيات الأجنبية.

ذاك المغيب الشاعري إنما كان قد التُقط عند شاطئ بُحيرة الحبانية غرب العراق، بمجمعها الفندقي الهرمي الشهير. حيث اختيرت مراسيه الأنيقة موقعاً للتصوير. والأغنية المصورة هي "قومي تنرقص يا صبية"، التي ظلت عجلات أشرطة الكاسيت أيام الثمانينيات، تدور بها وتدور داخل كلَّ مُسجلة، في كل حفل زفاف وخطوبة، وعلى الطريق في كل رحلة. أما الوسيم، بطل الفيديو وصاحب الأغنية، فهو المغني والملحن اللبناني سامي كلارك، الذي رحل عنّا يوم 20 من الشهر الجاري.

ضمن سياق سنة 1984، تاريخ إنتاج الأغنية، لا يبدو اختيار المكان مستغرباً؛ إذ إن العراق الذي احتضن كلارك في تلك الفترة، وإن كان ما زال يخوض حرباً ضروساً مع إيران، بدا محافظاً على شيء من رخائه وبهائه؛ دولةٌ مصدرة للنفط، ومركزٌ ثقافيٌ عربيٌ. وذلك قبل أن تعصف به رياح التاريخ، منذ غزو الكويت سنة 1990، مروراً بالاحتلال الأميركي سنة 2003، وصولاً إلى ظهور "داعش" واستيلائه لمدة عامين على الحبانية ومنتجعها سنة 2015.

في حين لم يكن لبنان في ذاك الزمان بلداً آمناً. فنار حربه الأهلية أخذ يشتد سعيرها، بعد مُضيّ عامين على احتلال الجيش الإسرائيلي لأراضيه، وصولاً إلى بيروت، وما أعقب الاجتياح من انقسام العاصمة العربية بأحيائها وشوارعها وعوائلها إلى خطوط تماس طائفية، واستمرار النزاع بالوكالة بين الأطراف الدولية والإقليمية، عبر الأحزاب المحلية المتصارعة وفصائلها المتناحرة.

على الرغم من ضراوة الاقتتال، وأزيز الرصاص وهدير المدافع، بقي لبنان بالنسبة للعالم العربي، خلفَ مشاهد الخراب وسواتر التراب والدخان الأسود المتصاعد، تلك النافذة الزجاجية زاهية الألوان، كما وصفه ذات مرة الكاتب الصحافي المصري الراحل محمد حسنين هيكل، بتاريخه واقتصاده وتركيبته الاجتماعية، استمر في تقديمه لبلدان الجوار وللعالم، تلك التجربة الثقافية الخاصة في الشرق. لجهة مقاربته فكرة الهوية بجرأة ومن دون حرج، ليس بوصفها تمثيلاً وتأصيلاً، وإنما تحويراً وتطويعاً، وليس لكونها إرساءً للقديم، وإنما إنتاجاً للجديد بالوسائل المتوفرة والمتاحة.

من وجوه تلك التجربة اللبنانية الخاصة، كان سامي كلارك، وإن ضمن نطاق الفنون الجماهيرية الترفيهية؛ إذ لن تجد في الشرق وقتها أحداً غيره، يُغني على الطراز الأوروبي، بحنجرة أوبرالية، أغاني بالفرنسية والإنكليزية والإيطالية وغيرها، مُظهراً نفس زخم المشاعر ومحافظاً على ذات القدر من الشحنة التعبيرية التي تصدر عنه، والجاذبية التي تشعّ من حضوره، حين يؤدي أيّاً من الأغاني المحلية باللغة المحكية، أو الخليجية.

ثم إن صوت سامي حبيقة، كما هو اسمه في القيد المدني، ذهب بتلك التجربة اللبنانية إلى ما هو أبعد من حدود لبنان، لتُسمع أصداؤه في المحيط العربي، فتطرب له شرائح الطبقة الوسطى في دول الجوار، كسورية والعراق، التي أخذت تنمو وتتوسع تدريجياً منذ سبعينيات القرن الماضي، مروراً بثمانينياته، قبل أن تضمحل منتصف تسعينياته، ويخبو معها صوت كلارك.

نجوم وفن
التحديثات الحية

 

تطلّعت الطبقة الوسطى، التي كانت ترزح تحت نُظم سياسية شمولية، إلى تنفس النسيم البحري الرطب الآتي من لبنان، والمحمل بغبار التلاقح الثقافي، مبديةً شيئاً من المرونة إزاء انكشاف هويتها أمام التأثيرات الخارجية، مأخوذةً بالخفة والظرافة والتلقائية، وألوان الحياة الاستهلاكية، ومظاهر الانفتاح الاجتماعي التي عكستها وسائل الإعلام اللبنانية، مقابل جمود الحياة بأنساقها السياسية والاجتماعية والثقافية في بلدانها، وخَرسانية مؤسسات إعلامها الرسمي.

لعل ألطف تلك النسائم اللبنانية التي أنعشت شاشات التلفزيون العربية، هي تلك المصورة، والتي ظهر فيها سامي كلارك ممسكاً بدمية يُحركها بين أصابعه، مُستلهماً عروضاً تلفزيونية ترفيهية أميركية، راجت منذ ستينيات القرن الماضي، كـ شيري لويس (Shari Lewis1933-1998)، منها واحدة باللغة الإنكليزية بعنوان Take Me With You (خذني معك).

تعكس الأغنية تلاقحاً ثقافياً طريفاً، ليس لجهة توظيف اللغة الأجنبية داخل مُنتج فني محلي فحسب، بل أيضاً في الأسلوب الذي جرى به ذلك التوظيف. ثمة من جهة، الغناء بالإنكليزية والديكورات التلفزيونية الداخلية التي تجمع بين المسرح الرحباني وبرنامج "شارع سمسم" الأميركي الشهير، يتناوب على أدائها كل من كلارك والدمية، التي استُحضر صوتها على الأغلب بمعالجة إلكترونية لصوت كلارك، عن طريق تسجيله ثم تسريعه، ليُركّب صوتاً مرحاً لشخصية كرتونية. من جهة أخرى، ثمة إيقاع البلدي الراقص والدارج في الأغنية اللبنانية. علاوة على أن نسق الكلام وبناء الجمل، لئن تُرجم، فسيُفهم ضمن الأنساق التي عادة ما تُكتب بها الأغاني العربية.

ضمن المشهدية ذاتها، أغنية مصورة أخرى لكلارك ودميته، تُجسّد ذات المرح المُركّب، هي "آه على هالأيام". المُغني بأزياء غربية عصرية، يجلس وحيداً على عتبة البيت، مستورداً من الحياة الغربية مظاهر اغترابها زمنَ ما بعد الحداثة والحقبة الصناعية المتأخرة. أما في المنسوب التحتي، تصوّر الكلمات القروح اليومية التي سببتها الحرب اللبنانية؛ إذ ها هو يُغني: "قالولي مسافرة، عقلي طار، ركضت ونطرتا عالمطار، وسكَّر المطار وفتح المطار، تاري هيي مش عارفة بكل اللي صار"، دلالةً على الهلع والفزع، في ظل الإغلاق المتكرر للأجواء جراء القصف المتلاحق.

كثيراً ما يوصف سامي كلارك اليوم على أنه "صوت الزمن الجميل". ذلك، أولاً، في إشارة إلى ثلاثي موسيقي كان قد شكله أيام الثمانينيات، بالاشتراك مع كل من اللبنانيين عبده منذر والأمير الصغير، تحت اسم Golden Age (العصر الذهبي). ثم ثانياً، لاقترانه بزمن عربي غابر يبدو أجمل، فقط حين تتم مقارنته بالزمن الحاضر.

قد مثّل بحضوره العصري روح التجربة اللبنانية الفريدة. إلا أنه وقع أيضاً ضحية تناقضات الواقع العربي وتجاذباته. غنّى للرئيس العراقي الراحل صدام حسين. لعله قد وجد فيه، في حينه، راعياً في ظل الأوقات العصيبة، أو زعيماً عربياً تقدمياً أخذ على عاتقه مقارعة نظام الملالي في إيران. كما غنى لحزب "القوات اللبنانية" متموضعاً إلى يمين المشهد السياسي اللبناني المتقلب والمستقطب.

يبقى مغيب سامي كلارك عن المشهد الفني اللبناني اليوم، بمثابة وقفة للتغني بتلك النافذة البحرية زاهية الألوان، التي اسمها لبنان، ثم العجب، كيف أنها تعاود الشروع إثر كل عاصفة عاتية، تُحيل زجاجها إلى هشيم.

دلالات
المساهمون