ديفيد فرانس: كيف ننجو من جائحة؟

04 ديسمبر 2022
يكتفي الوثائقي بتوثيق مراحل المعركة حتى ظهور اللقاح (Getty)
+ الخط -

جائحة واحدة مرّت على عالمنا، ونحنُ نملك وسائل التواصل الاجتماعي والتطور التكنولوجي الفائق. جائحة رافقتها عاصفة من العلوم الزائفة وخطر الموت والانتشار السريع للفيروس. تجاوزناها، بحل طبْي. ولو تركنا الخيار للسياسة لكان للداء والدواء تعقيد أكبر. سنضع "التجربة الأولى" عنواناً للجائحة، فمن الواضح أن الأوبئة ستصبح موضة لهذا العصر. تموضعت هذه الجائحة سينمائياً كمفصل تاريخي، سينما ما قبل وسينما ما بعد فيروس كورونا، فللقصص وللتفكر في أحداثها وحبكاتها ضمن حيز مكاني محدود جداً سحر خاص لا يتقنه الكثيرون.
ليس من الغريب على الصحافي ومخرج الأفلام الوثائقية الاستقصائية، ديفيد فرانس، أن يتابع هكذا حدث، تناولته الفنون والعلوم من جوانب لا تعد ولا تحصى. فرانس الذي اختصت كتبه الثلاثة وأعماله الوثائقية بمتابعة متأنية لقصص لا تريد السياسة ومنصاتها الإعلامية التابعة الحديث عنها، حَبكُ الحقائق على ثوب الحكاية لتوثيقها اختصاصه. من هنا نضع نقطة التتبع الأولى لقراءة عمله الأخير How to Survive a Pandemic إصدار عام 2022، وإنتاج HBO.
تُلاحق الكاميرا في القسم الأول من الفيلم العالِم جون كوهين، المختص بعلم الأوبئة والمراسل في مجلة Science. وعبر استقصاء المخرج، يداً بيد مع كوهين، ستروى لنا قصته، وهي أيضاً قصة أول لقاح لكوفيد-19. يوثق هذا القسم الصراعات السياسية مع ترامب، ومطبات اللايقين خلال السباق المحموم لتطوير اللقاح.


اليقين بأن الأسوأ قادم موضوع يُطرح بشفافية خلال أحاديث كوهين مع أنتوني فوسي، كبير المستشارين الطبيين في البيت الأبيض، وتيدروس غيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، فلا لقاح قبل خمس سنوات. مع تطور الجائحة وانفلاشها عالمياً، بدأت السياسة بالتنحي قليلاً لصالح العلم. نتابع مع مرور الزمن في الفيلم زيادة عدد الضحايا وعدد الذين خسروا المعركة بشكل فج على الشاشة. مكانياً، تنقل كوهين بين المراكز الرئاسية في أميركا، لإزالة الفراغات الزمنية المُعَطِلة لتطوير اللقاح والدخول في مرحلة التصنيع بسرعة. فبعد وصول الخريطة الجينية للفيروس من الصين، لم يتبق لنا سوى تنفيذ خطوات تصنيع اللقاح بشكل متواز، وليس تتابعياً، كي نختصر الزمن والبروتوكولات الطبية التقليدية، ما نطلق عليه اليوم Operation Warp Speed.
يتابع القسم الثاني عملية توزيع اللقاح، لحظة إعلان جاهزية هذا الأخير والموافقة عليه تعتبر لحظة البداية لأكبر عملية لوجستية في التاريخ البشري المكتوب. نتنقل مونتاجياً بين بوسطن وواشنطن، فايزر وأسترازينيكا، مع عدد ليس بقليل من الاجتماعات عبر الإنترنت، ولحظات النجاح من دون أن يجد الأطباء أحداً بجانبهم.
يحل منتصف الفيلم عند حدثين مفصليين؛ الأول رحيل ترامب، والثاني تجاوز عدد الوفيات المليون. يظهر جو بايدن أيضاً محملاً بوعود وتوصيات بالتزامن مع ظهور المتحورات في العالم. ننتقل إلى بنسلفينيا لمتابعة أعضاء الكنيسة الكاثوليكية، ذوي البشرة السوداء، وهم يقنعون أهالي المدينة بأخذ اللقاح. الحقيقة هنا مغايرة ومائعة وتحمل معاني عديدة ومختلفة عما رأيناه في مراكز القرار ومكاتب شركات الأدوية العملاقة. فالنظام الصحي المقسم طبقياً، وتمادي الليبرالية في تفتيت ترابط المجتمع الأميركي، أظهر لنا حالة اللايقين عند الفقراء والمهمشين، فكان الحل الوحيد هو توظيف الهوية الدينية لرتق الفراغات الاجتماعية، وإقناع الرافضين بالحصول على جرعة من اللقاح.
من المنظور الأميركي الطبي نفسه للفيلم، ننتقل إلى العالم البعيد عن المركز -أوروبا وأميركا- كإثيوبيا والهند وأفريقيا، توظف مشاهد حرق الجثث سياسياً بالفيلم، مفاهيم كوحدة الجسد البشري من ناحية قدرة أي جسد على احتضان الفيروس ونقله لأي جسد، فتصبح البشرية جسدا واحدا، تتعرى في النهاية أوهام الفرد الغربي عن فردانيته.
يختتم الفيلم بمشهدية مأساوية عندما يظهر المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، ويصرح للمخرج بأننا فشلنا، ولو نجحنا لأنقذنا مليون إنسان.
لم يسعَ الفيلم إلى اللحظات الحميمية، واكتفى بتوثيق مراحل المعركة لظهور اللقاح، وكان يتهاوى في بعض الأحيان إلى حالة من الفراغ السينمائي. الشحن العاطفي ضد ترامب وتخفيف هذه المزاجية مع الرئيس الحالي جو بايدن، لم يساهما سوى بتعزيز حالة التخبط بين الثقل الاستقصائي للفيلم، والتكثيف الدرامي المعهود لديفيد فرانس. والأهم، اللايقين العالمي في هذه الحرب.
للمخرج العديد من الأفلام الأخرى، ترشح أحدها (How to Survive a Plague) إصدار عام 2012 لجائزة أوسكار، وحصل على جائزتي Emmys. فيلم النجاة من الطاعون مثال عن سينما متأنية والتزام أخلاقي بقضية المثليين المستضعفين وغيرهم من المصابين بالإيدز. لاحق فرانس، عبر تقاريره كصحافي ومصور ومن خلال آلاف الصور والمقاطع الأرشيفية، حركة Aids Coalition to Unleash Power (Act Up). منذ انطلاقها عام 1987، ركز على تجمعات أعضائها في نيويورك فقط، حارب أعضاء هذه الحركة الكنيسة الكاثوليكية واللاأجندة السياسية لرونالد ريغان وبعده جورج بوش في التعامل مع هذا المرض، والجشع اللامحدود لشركات الأدوية، ومواجهة الشرطة والاعتقال عند محاولاتهم لاحتلال الـ FDA ومركز المدينة وشركات الأدوية.

تحول القسم الأكبر من المصابين إلى علماء درسوا لوحدهم الطب والصيدلة، ليصنعوا ترسانة حماية كيميائية من هذا الفيروس الذي يفتك بنصف المصابين. نصل للحظة ذروة يمكن القول إنها وثيقة للبشرية، عندما تجاوز عدد الضحايا الثمانية ملايين. اضطر أهالي وأصدقاء الضحايا لحرق الجثث لتتجمع الحركة أمام البيت الأبيض، وتنثر رماد الموتى في حدائقه مع أمنيات الأمهات بأن تبقى أرواح الضحايا تلاحق جورج بوش حتى أيامه الأخيرة. تظهر الخاتمة لنا غير متوقعة، فمن قادوا الحركة واكتشفوا الأدوية التي تثبط الفيروس، لم يستطيعوا إيجاد هدف جديد لحيواتهم رغم استمرار الحركة إلى اليوم.

على الهامش من هذا المقال، والعالم أيضاً، في زمن قريب من زمن أحداث الفيلم السابق، كان المخرج عباس كياروستامي، يتجول حاملاً بيده كاميرا الديجيتال الصغيرة ليتقصى حركة (UWESO) Uganda women’s efforts to save orphans في أوغندا، بدعوة من الصندوق الدولي للتنمية الزراعية IFDA. الحركة الاجتماعية التي بدأت بمبادرة من الأمهات الأوغنديات عام 1986، ليتبنين الأيتام الذين فقدوا أسرهم بسبب الحرب الأهلية أو الإيدز، أو الاثنين معاً، والعمل على توفير منزل وعناية لهم. فيلم كياروستامي ABC Africa الصادر عام 2001، يشير من عنوانه إلى حالة أولية لمعرفته بالمكان وبالمرض، هذا ما نراه بمشاهده القلقة وتفاصيل وجهه خلال العرض، بين وجهة نظره الشخصية ورحلته الأولى للتصوير خارج بلاده في مدينة لا ذكور بالغين فيها، تتجلى السياسة الدولية والموقف الديني بأقبح الصور تحت وطأة الحرب الأهلية والمرض القاتل.

المساهمون