ختمة مصطفى إسماعيل... إن هذا سحر مُبين

16 ابريل 2023
ملأ فقرات ختمته المرتلة بتصرفات غير مسبوقة وشديدة الجرأة (فيسبوك)
+ الخط -

لأسباب كثيرة، لم تلق الختمة المرتلة للشيخ مصطفى إسماعيل حقها من الإنصات اللائق، ولا الاهتمام الواجب، إذ غفل عنها كثير من المستمعين في عمومهم، بل وكثير من المفتونين بصوت الشيخ الاستثنائي، والحريصين على التمتع بمحافله النفيسة. بالرغم من أن هذه الختمة تُبث بانتظام في إذاعة القرآن الكريم من القاهرة، كما أنها منشورة كاملة على عشرات المنصات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.

وصحيح أن الحالة الاستماعية العامة، المتمثلة في الانشغال بالمفقود عن الموجود، تعتبر سبباً أساسياً في ضعف الاهتمام بهذا المصحف المرتل، إلا أن عوامل أخرى تضافرت لتسلب ترتيل مصطفى إسماعيل ما يستحق من إنصات وتأمل. وفي مقدمة هذه العوامل أن "الترتيل" لا يُظهر حقيقة صوت الشيخ، ولا طبقاته الساحرة، وجواباته بالغة القوة، التي اعتادها السميعة في المحافل الجماهيرية، أو في التلاوات المجودة عموماً، ما يعني أننا سنكون أمام نمط من الأداء يعتمد بالأساس على "التفكير"، أعني التفكير النغمي للشيخ مجرّداً من الإبهار بخامة الصوت.

وهذا النمط الأدائي لا يستسيغه إلا مستمع مدرب، نال قسطاً وفيراً من تمرينات تحصيل الجمال الكامن، وبلغ الغاية في حساسية إدراك التفاصيل، بل والعلاقة بين هذه التفاصيل. ولا ريب أن هذا المستوى من المستمعين كانوا وما زالوا وسيظلون قلة أو نخبة تزيد أو تنقص، ولا يشكلون بأي حال قاعدة جماهيرية واسعة تشابه الجمهور العريض الذي يتذوق محافل الشيخ وتلاواته المجودة.

لكن الوصول إلى هذا المستوى الاستماعي ليس مستحيلاً، وليس صعباً. وليس بينه وبين من يطلبه إلا التخلص فوراً من طرائق الاستماع السطحية؛ إذ لا بد من تفرغ كامل، وعدم الانشغال بأي شيء، عن الإنصات الكامل، الذي هو في حقيقته تدريب على الوسيلة الوحيدة لإدراك التعقيدات والجماليات المبثوثة في مصحف الشيخ المتفرد.

صحبت الشيخ أثناء التسجيل لجنة من كبار علماء القراءات في القرن العشرين، وكان شيوخها يستوقفونه لأدنى ملاحظة فيعيدها على الوجه الأكمل، ثم إن هذه اللجنة بعد أن اكتمل التسجيل، أعادت الاستماع إلى الختمة كلها، من أولها إلى آخرها، فوجدتها سليمة دقيقة لا مطعن ولا ملاحظة عليها. ثم أنهت هذه اللجنة عملها، وجاءت لجنة أخرى من الأزهر، فراجعت المصحف كاملاً، وأقر جميع أعضائها بسلامة التسجيل وصحته، ووقعوا جميعاً على ذلك، ما يعني أننا لسنا أمام عمل فردي يرد فيه السهو والخطأ، بل عمل جماعي، يشرف عليه أكبر المتخصصين في هذا الميدان.

فنياً، تمثل تلك الختمة رحلة روحانية، وجدانية، طربية، بالغة التميز، كان الشيخ مصطفى هو القارئ الوحيد الذي وظّف كل المقامات المستخدمة في التلاوة المجودة ليخدم بها ترتيله المتفرد. وختمته المرتلة هي الأثرى نغمياً بين المصاحف الخمسة الشهيرة التي تبثها الإذاعة. وبعض هذه المصاحف دارت كلها حول ثلاثة مقامات دوراناً تقليدياً، وأكثرها خلا من مقامات مهمة ورئيسة. في ختمة الشيخ مصطفى المرتلة، سنجد البياتي، والصبا، والحجاز، والراست والسيكاه، والنهاوند، والجهاركاه، والشوري. وسنجد غيرها بدرجات أقل. هذا أمر غير مسبوق ولا ملحوق.

ولأن التصعيد المتدرج يعد سمة أساسية في تلاوة الشيخ مصطفى، فقد انعكست هذه السمة أيضاً على المصحف المرتل، ليس على كل فقرة مستقلة، بل على الختمة بأكملها، فكما يحتاج الشيخ في القرآن المجود إلى ربع ساعة أو ثلث ساعة للصعود إلى الجوابات العالية، ومناطق الإبهار الفني، احتاج الرجل نحو أربعة أجزاء لـ"التسخين"، أو للتعود على تلك التجربة الجديدة التي لم يمارسها في حياته مرة واحدة. بعد تلك الأجزاء، دخل الشيخ في الحالة التي يحبها، حالة الاندماج والسلطنة، وانطلق بنا في رحلة قرآنية فنية طربية بالغة الثراء والجمال والتعبير.

سار الشيخ في ترتيله وفق منهج اختاره والتزم به، ويمكن أن نختصر معالم هذا المنهج في فكرة واحدة تتمثل في تغيير الحالة الوجدانية للمستمع كل عدة دقائق، من خلال الانتقال من مقام إلى آخر، والإمساك بأذن المستمع ليحيا في جو جديد يختلف ويتنوع بالتطوير الدرامي أحياناً، وبالتغيير النغمي أحياناً أخرى. فهو يقرأ بالمقام ما يتيسر له أن يقرأ، نصف صفحة، صفحة كاملة، أكثر أو أقل، وقبل أن يكون هناك مجرد احتمال للشعور بالتكرار أو السآمة، ينقلب الشيخ إلى نغمة أخرى. وتلك اللحظات التغييرية من أمتع مواطن الجمال وألذها في هذه الختمة.

وعبر تلك الانتقالات، ومن خلال أداء كل مقام، يطير الشيخ بالمستمع المنصت إلى أجواء تتنوع وتختلف. دقائق من الخشوع والتأثر، بعدها أجواء من الشجن والأريحية، تليها حالة من التأمل العميق.. ثم حالة من الطرب والسلطنة التي ترقى إلى طرب المحافل المجودة. وفي بعض المقاطع، تجد الشيخ كأنه خطيب على المنبر، أو مدرس يشرح لتلاميذ، وفي أخرى يرق ويحنو ويربت على كتف المستمتع. مع ترتيل مصطفى إسماعيل، لا يمكن أن يدب الملل إلى النفس لحظة واحدة.

ملأ الشيخ فقرات ختمته المرتلة بتصرفات غير مسبوقة، وشديدة الجرأة، إلى درجة أن نجد في مواضع شتى منها قفلات محكمة ومطربة، لا يعرفها فن الحدر المشتهر إذاعياً بالترتيل. ويمكن أن نشير هنا إلى قفلاته في مقطع "وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر..."، من سورة الأعراف، وأدائه للوقفة على "أربعين ليلة" أو لوقفة "ولا تتبع سبيل المفسدين" ثم إلى تلك القفلة المذهلة في "فإن استقر مكانه فسوف تراني". وكل ذلك بمقام الجهاركاه، وبصيغة غير معتادة من هذا المقام. وكذلك، قفلاته في الآيات الأولى من سورة مريم، لا سيما في قوله: "من الكبر عتيا" وقوله: "ولم تك شيئا".

وفي بعض السور، بلغ الشيخ آفاقاً تعبيرية وتطريبية لافتة للغاية. ولعل المثال الأوضح لهذا المستوى من الأداء يتجلى في ترتيله لسورة هود، وتحديداً من الآية 25، حيث تبدأ قصة النبي نوح. من هذا الموضع وحتى آخر السورة، تفجر الشيخ بطاقات تعبيرية وتطريبية، ونثرها في كل مواضع هذه الفقرة، وتأنق في كل كلمة وقفلة. بدأ الشيخ سرده لقصة نوح بمقام الهزام، وأتى فيه بجمل جريئة لا يكاد قارئ يجرؤ على الإتيان بمثلها في ختمة مرتلة، حتى لو كان قادراً على أمثالها في تلاوته المجودة. والأمثلة من هذه السورة يضيق بها مثل هذا المقال. لم يكن غريباً أن يعتبر بعض المستمعين ترتيل الشيخ لسورة هود بمثابة محفل من محافله التاريخية لهذه السورة.

يحتاج ترتيل الشيخ مصطفى إلى إذن واعية، تلتقط الجمال المنثور كحبات اللؤلؤ في ختمته العبقرية. أُذن منتبهة إلى التفاصيل المتوارية، لا تتفلت منها الدقائق والمفاجآت التي تزدحم بها كل فقرات هذا الترتيل العجيب.

يمكن لمن يريد لأذنه تدريباً مرتفع المستوى على تحصيل الدقائق الفنية أن يستمع إلى ختمة الشيخ كاملة، من أولها إلى آخرها، ثم يرى مدى انتباهه لأداء جملة: "ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا" بسورة النساء، أو "يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير" بسورة المائدة، أو "قالوا نعم" بسورة الأعراف، أو "ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا" بسورة هود، أو "والصائمين والصائمات" بسورة الأحزاب، أو "ومن يؤمن بالله يهد قلبه" بسورة التغابن، أو "وما أدراك ما العقبة" بسورة البلد.

في ترتيله، أتى الشيخ مصطفى بتصرفات هي مع جمالها وطربها تتسم بجرأة شديدة. وجرأة الشيخ في المحافل معروفة ومفهومة، لكن جرأته في "الترتيل" وهو يخوض تجربة لم يتدرب عليها يوماً واحداً، ويخوضها أمام لجنة من أهم علماء القراءات في القرن العشرين، أمر يصعب فهمه أو تفسيره.

المساهمون