سنة أخرى مرّت مُحدثةً هزّة جديدة في دنيا السماع. إذ لم يكد العالم يتعافى من سنينٍ عجاف حلّت بوباء كوفيد-19 مُلحِقةً بالحياة الموسيقية أضراراً جسيمة على جميع الصعد، الإنتاجية والأدائية وحتى طبيعة تجربة الاستماع ذاتها، بات يلوح اليوم في الأفق، والموسيقى على أبواب سنة جديدة، شبح الذكاء الاصطناعي بشتّى تطبيقاته، التي من شأنها أن تغيّر علاقة الإنسان بالموسيقى جذرياً وإلى الأبد.
في خريف العام الذي سبق، أتى إعلان شركة OpenAI عن فتح "آليّ الدردشة مسبّق التدريب" أو ChatGPT لعموم مستخدمي شبكة الإنترنت، بمثابة بشرى بحقبة جديدة من تاريخ البشرية، وإن كان وسط مخاوف متزايدة من سوء الاستخدام في ظل غياب القوننة اللازمة لمواجهتها. فنيّاً، شكّلت بعض الأغاني التي أنتِجت باستنساخ أصوات نجوم بواسطة الذكاء الاصطناعي جملة تحدّيات باتت تتهدد مستقبل الصناعة الموسيقية. أشهر تلك الأغاني Heart On My Sleeve التي أنتجها نجم منصّة تيك توك، المُلقّب بـGhostwriter977، في إبريل/نيسان الماضي.
عن طريق تكنولوجيا توليدٍ آليّ، جرى تسجيل الأغنية بصوت مطابقٍ لصوت كلٍّ من النجمين دريك وويكند، عبر برنامج روبوت. من شأن ذلك السبق التقني أن يقود إلى مستقبل موسيقيّ قريب، حين يُصبح بمقدور كل مُستخدم للوسائل الجديدة أن يُصمم أغانيه بحسب ذوقه الخاص، مُستنسخاً حناجر نجومه المفضلين، ليستمع إليها بمفرده أو بصحبة مقرَّبيه ضمن ما بات يُعرف بظاهرة "جمهور المستمع الواحد" (Audience of one). لذا، ثمة تساؤلات مُلحة عن الآليات القانونية التي تحمي ملكية الصوت الغنائي، ومآلات تحويل الهوية الصوتية إلى سلعة رقمية بحد ذاتها، بمعزل عن الفنان صاحب الحنجرة.
على صعيد تكنولوجي متصل، استمرّت ثورة الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي في تعزيز دورها بصناعة النجوم وتحديد معايير جديدة للنجاح الجماهيري. برز اسم مغنية الهيب هوب آيس سبايس، ابنة الثالثة والعشرين عاماً، كواحدة من بين اللواتي وصلن إلى النجومية باستثمار مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك عندما حقق فيديو تصدّرته بعنوان Buss it انتشاراً فيروسياً على "تويتر"، ومنه إلى "ساوند كلاود" ثم "إنستغرام".
على النحو ذاته، أصبحت نسخة التشيلية الفلسطينية إليانا من أغنية النجم المصري عمرو دياب "تملّي معاك" تتصدر لوغاريتمياً منصة يوتيوب، وقوائم الأغاني الأكثر تتبّعاً واستماعاً، ما قاد الشابة إلى اعتلاء أحد مسارح ولاية لوس أنجليس الأميركية شهر أغسطس/آب، وتقديم عرض فني أدى إلى نفاد جميع التذاكر.
لعل أفضل أغنيات السنة ضمن فئة البوب كانت تُحفة النجمة بيلي آيليش بعنوان What Was I Made For والتي كُلّفت بكتابتها وإنتاجها بالشراكة مع أخيها فينيكس، لتكون ضمن أغاني فيلم Barbie من إخراج الأميركية غريتا غيرويغ. افتُتح أوّل عرض للفيلم في شهر يوليو/تموز.
إضافةً إلى آيليش، شاركت مجموعة نسائية من نجوم البوب الصاعدات في لائحة موسيقى الفيلم، مقل دوا ليبا ونيكي ميناج. إلا أن أغنية آيليش تجاوزت إطار "الساوند تراك" لتأخذ أغنية البوب، سواء لجهة الكتابة أو التلحين أو الأداء، إلى عمق لامسته في ما ندر، مُقاربةً بذلك البعد الوجودي لقصة الدمية باربي في الفيلم من منظور المعاناة الشخصية الإنساني، إزاء ماهية الوجود والجدوى منه.
شهد العام دخول المملكة العربية السعودية الساحة الموسيقية في المنطقة الناطقة بالعربية، وإن لم يغب السعوديّون يوماً عن المشهد، بل إنهم ظلّوا حاضرين دائماً من خلال الاستثمار في مجال الإنتاج الفني. الذي تغيّر، منذ البدء بنهج الانفتاح المجتمعي على مدى الأعوام الثلاثة الأخيرة، هو التوسع في استضافة العروض والمهرجانات الغنائية والموسيقية على أرض المملكة، لتشارك الرياض، بوزنها الإقليمي، الدوحة وأبوظبي ومسقط في رسم مشهد ثقافي أكثر حيوية وتنوعاً ضمن دول مجلس التعاون الخليجي.
ففي أكتوبر/تشرين الأول الفائت، أُطلق مهرجان الأوبرا الدولي في العاصمة الرياض، بحضور فنانين غربيين. من بينهم مغني طبقة التينور الإيطالي ڤيتّوريو غريغولو، ومغنية طبقة السوبرانو البريطانية فيكتوريا سيموندز، بمصاحبة الأوركسترا السيمفونية الوطنية البريطانية، وبمشاركة الفنانة السعودية ريماز عقبي.
سجّل شهر سبتمبر/أيلول الفائت رحيل المغنية اللبنانية نجاح سلام عن 92 عاماً. اشتُهرت ابنة بيروت بأغنيتها الأولى "حوّل يا غنام حوّل"، من كلمات وألحان إيليا المتني. كما خاضت غمار السينما الغنائية إثر انتقالها إلى مصر، لتظهر إلى جانب نجوم عصرها كإسماعيل ياسين وكارم محمود في فيلم "دستة مناديل" (1954). عُرفت لاحقاً بأغانيها الوطنية، وخلال فترة اعتزالها، اتجهت إلى الغناء الديني.
وقبيل أيام من انقضاء العام، رحل المؤلف والباحث والمربي السوري نوري إسكندر عن 85 عاماً. كان إسكندر من رواد الحداثة في الموسيقى الشرقية على صعيد دول الإقليم؛ إذ جمع وأعاد صياغة وتقديم التراث الغنائي القديم للكنائس الشرقية، خصوصاً السريانية. كما ألف أعمالاً موسيقية آلية جمعت الآلات الشرقية بالغربية، مقترحاً حلولاً إبداعية من أجل كتابة موسيقية شرقية متعددة الأصوات.
وكأن ثالث أعوام العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين لم يشأ أن يمر من دون مأساة تحلّ في الشرق الأوسط. لا يزال قطاع غزّة يتعرض لعدوان إسرائيلي مستمر منذ أكثر من ثلاثة أشهر، ترافقه توغّلات ميدانية، ما استدعى تفاعلاً عربياً وعالمياً غير مسبوق.
من بين الاستجابات الموسيقية النادرة واللافتة على الساحة الإقليمية، كانت أغنية "تلك قضية" لفرقة كايروكي المصرية، التي رُفعت على منصّات الاستماع آخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني، لتُحقق إلى اليوم أكثر من مليون مشاهدة على "يوتيوب".
تبرز أغنية فرقة كايروكي كمؤشر على تبلور شخصية الموسيقى البديلة لجهة أدوات المعالجة الموسيقية والخطاب الفكري. تتميّز الكلمات التي كتبها مصطفى إبراهيم بالحذق والحركية والسخرية، والأخذ بعين الاعتبار مواضع التأثير العاطفي والنفسي والفكري لدى شباب الطبقة الوسطى المعولمة بقطاعه المتحدث للعربية، سواء ضمن بلدان المنشأ أو في المهجر.
على صعيد الإنتاج الفني، تُميّز الأغنية أناقة في المعالجة والتوزيع ومسعى بات شائعاً إلى تبنّي نهج العبور كقنطرة ثقافية بين الموسيقى الغربية والعربية، وذلك بالاستعانة برموز صوتية كآلة الرق الإيقاعية، مع البقاء داخل مربع موسيقى البوب المعولم.